بقلم: آسيا العتروس "استطلاعات الرأي والديموقراطية "عنوان مثير ما في ذلك شكّ وهو أحد العناوين الكثيرة للمداخلات التي قدّمت بالأمس على هامش الورشة المفتوحة التي نظمتها الهيئة الوطنية العليا لإصلاح الإعلام والاتصال بالتعاون مع المنظمة الدولية للفرانكوفونية, وهي مثيرة لعدة أسباب لأن صاحبة هذا العنوان وهي سينتيا فلوري الباحثة الفرنسية في علوم الاتصال والفلسفة السياسية تعرّضت للجذور التاريخية لماهية وأهداف استطلاعات الرأي منذ أقدم العصور وتحديدا عند اليونانيين إلى عصر الأنترنت... وخلصت إلى نتيجة لا تخلو من الطرافة وهي أن مصطلح استطلاعات الرأي ومنذ البداية ارتبط بمفهوم غامض على اعتبار أنه يعني في اليونانية قبول وموافقة الأغلبية وفي اللاتنية يعني الكلمة والمجد للشعب، وهي معان تجذب المستبدين كما تجذب الديموقراطيين وإن اختلفت النوايا والأهداف, وهوما يجرّ للقول بأن استطلاعات الرأي تبقى صناعة للمواقف، وهي ليست دوما منزّهة أومستقلة أو بعيدة عن الضغوطات وتأثيراللوبيات... حتى وقت قريب ظلت ثقافة استطلاعات الرأي شبه مغيبة في بلادنا لأسباب متعددة وأهمها توجّس بل وخوف النخب الحاكمة من الرأي العام وميولاته، فثقافة استطلاعات الرأي بكل بساطة هي مواجهة لثقافة زعامة الفرد الحاكم والتي غالبا ما تتعارض مع ميولات السواد الأعظم من الشعب... وإذا استثنينا الاستطلاعات الرسمية سواء الاقتصادية المتعلقة في أغلبها باستشراف السوق وميولات المستهلك وكل ما يمكن أن يصبّ باتجاه دفعه إلى مزيد التداين أوكذلك بعض الاستطلاعات المتعلقة بقضايا أبعد ما تكون عن الاهتمام بميولات الرأي العام كمقياس لنبض الشارع ومرآة تعكس توجهاته، فإن استطلاعات الرأي لم تكن بأيّة حال من الأحوال جزءا من صناعة القرارولا يمكن أن تكون كذلك فغير بعيد عن الأذهان وعلى سبيل الذكرلا الحصر، إن أغلب استطلاعات الرأي التي سبقت اجتياح العراق أكّدت معارضة الرأي العام الأمريكي بقوة لتلك الحرب ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية لم تتقيد بذلك والأمثلة قد تتعدد في هذا الشأن. وقد تتحوّل استطلاعات الرأي في المواسم الانتخابية خاصّة إلى وسيلة للاستقطاب والتأثير على خيارات الناخب وهي بذلك ليست دوما من دون حسابات خفيّة تصبّ في صالح هذا الحزب أو ذاك أو هذا المترشح أو ذاك. على أن الملاحظ أنه على مدى الأشهرالستة الماضية منذ ثورة الرابع عشر من جانفي فقد استعادت استطلاعات الرأي حضورها وباتت، شأنها شأن الأحزاب السياسية والنشريات الجديدة، تستأثر بالاهتمام وتحظى بالنقاش في عديد المنتديات السياسية والإعلامية والفكرية التي تستعيد بدورها موقعها وتقطع مع مرحلة طويلة خضع فيه العقل والاجتهاد لكل أنواع القيود والتقوقع. إلا أنّه وكما عديد الأحزاب الصغيرة التي تسعى، ليس من دون جهد، إلى تحديد خطواتها على المشهد السياسي، وكما عديد النشريات والصحف القديمة والجديدة التي لاتزال تبحث عن خط مقنع في الساحة الإعلامية، فإن استطلاعات الرأي بدورها لاتزال تبحث عن مصداقيتها لدى الرأي العام الذي ينظر بكثير من الريبة والشك والاحتراز إلى تلك الاستطلاعات. فليس سرّا أنّ استطلاعات الرأي تحتاج بالإضافة إلى توفّر الإمكانيات الكثيرة من الخبرة والدراية والشفافية والموضوعية والحياد، ولكن أيضا الكثير من الحريات للقضاء على تلك الفكرة السائدة بأنّ استطلاعات الرأي ليست سوى محاولة للاستقراء والتجسّس على ميولات العامة وخياراتهم من أجل التحكم فيها والسيطرة عليها. والأهم من كل ذلك أنّ هذه الاستطلاعات تحتاج أيضا للكثير من المال، وتحصل- شأنها شأن الأحزاب- على تمويلات من أطراف مختلفة بما يمكن أن يدعو للتساؤل إلى أيّ مدى يمكن أن تحافظ على استقلاليتها، وإلى أيّ مدى يمكن أن تكون في منأى عن هيمنة اللوبيات والأطراف المؤثرة لتعبّر عن مزاج الشعب وتعبّر بالتالي عن خياراته المصيرية...