يشهد المجال الثقافي هذه الأيام تراجعا نسبيا على مستوى الانتاج. لكن ولئن جعلت الظروف الإستثنائية التي تعيشها البلاد منذ انتصار الثورة الشعبية نسق الإنتاج الفني والثقافي عموما يتراجع فإنها شكلت فرصة لقياس مدى حماسة المثقفين واستعدادهم للإنخراط في الحياة الوطنية والمشاركة في بناء تونسالجديدة. الفنان جمال المداني الوجه المسرحي والتلفزيوني المعروف له رؤية خاصة جدا لما يحدث اليوم في بلادنا بعد انتصار الثورة الشعبية. المعركة الحاسمة حسب رايه تتمثل في الإرتقاء بدرجة وعي المواطن بعد التخلص من الحكم الديكتاتوري. شعب مثقف وأجيال واعية لا يمكن أن يحكمها طاغية حسب اعتقاده. تفاصيل ذلك إلى جانب مسائل أخرى طرحناها على ضيفنا نقدمها في الحوار التالي معه.
ماذا يعني المسرح بالنسبة لفنان في تجربة جمال المداني, هل هو فن من بين الفنون أم فن له رسالة بعينها؟
المسرح فن أولا وبالأساس..التعبير فيه يتضمن العديد من الوسائل كالنص المكتوب والإلقاء والجسد والصوت والأحاسيس..كل هذه العناصر هي في خدمة هذا الفن لايصال فكرة ورسالة الى الانسان بصفة عامة..وكل له طريقته الخاصة في التعبير..هذا كتعريف عام للمسرح، أما الأمر الثاني فيتعلق بوعي الفنان بأن المسرح قادر على التغيير وعلى أن يرتقي بالذوق العام.
المسرح يشمل العديد من الهياكل التي لا تنتمي الى وزارة الثقافة فحسب
تطرق وزير الثقافة في شهر أوت الماضي بمقر الوزارة إثر التقائه بأعضاء اللجنة الاستشارية للمسرح المحترف إلى مسألة إعادة هيكلة المسرح التونسي فإلى أي مدى يمكن المضي عمليا في تطبيق هذا المقترح؟
المسرح يتضمن عدة هياكل انتاج..كما أنه ثمة هياكل تنتمي إلى وزارة الشباب والطفولة تمثل الفرق الهاوية.وجمعيات تتبع وزارة الداخلية..أنا لا أرى انه يجب اعادة هيكلة المسرح التونسي وإنما إعادة هياكل مراكز الفنون الدرامية ومسالك التوجيه في المسرح التونسي وهي مسألة ليست من مشمولات وزارة الثقافة فحسب وإنما تهم المسرحيين بالاساس وكذلك أصحاب التجارب المتنوعة التي من شأنها أن تجد السبل لكشف العقبات والنقائص حرصا منهم على النهوض بهذا القطاع من خلال مراجعة طرق التكوين والنظر في القوانين من جديد.
عندما ينظر جمال المداني إلى تجاربه في المسرح وكذلك في التلفزيون وفي السينما كيف ترتد إليك الصورة وهل أنت راض نسبيا عن مسيرتك الفنية إلى حد اليوم؟
للأسف هو سؤال أجاب عنه الكثيرون بنفاق كبير "نحن نتحسر..ولو..ل.."..أنا لست في خانة التفكير بمسألة أنا راض أو لست راضيا لأن المسرح بالنسبة لي كالهواء والماء..وهذا السؤال يجب أن يطرح على شخص غير واع بقيمة أعماله التي يقدمها..فأداء الممثل لا ينتهي وهو يتحسن من عمل الى آخر..وأنا أتذكر جيدا ممثلا فرنسيا قام بعرض مسرحية لمدة أربعين سنة الى ان صاح قائلا في يوم من الايام "لقد وجدت الشخصية الملائمة وجدتها.." وكأن المسرحية كانت تفتقدها رغم أنها تجاوزت النجاح لا سيما أن عرضها تواصل الى أربعة عقود..وفي الحقيقة هو لم يجدها لانه حتما سيجد أشياء أخرى مادام مشواره متواصلا ثم إني لا أستطيع أن أباشر عملا غير مقتنع به..
لاقت ادوارك المختلفة نجاحا باهرا إلا أن عرض"درويش درويش" في قرطاج العام الفارط لم يلق نفس الحظ بما يمكن أن نفسر ذلك؟
عرض"درويش درويش" عرض ناجح جدا وهو من اهم الاعمال التي قدمت في تونس..أما ما حدث في قرطاج فهو نتيجة لضيق الوقت المخصص للبروفات والإطار الانتاجي الذي مثل هذا العمل ولم يوفق في مستلزمات العرض..ولكن شهادة مهرجان سوسة تبقى شهادة قيمة لهذا العمل لانه ثمن المضمون الفني والجدية التي رافقت كل فقرات العرض..
كلنا نتذكر جيدا الحملة الصحفية التي أقيمت بشأن هذا الموضوع منددة بفكرة عرض"درويش درويش-" لان درويش ليس موسيقيا تونسيا ولا شاعرا تونسيا لينسى الصحفيون أن الإبداع تونسي بالأساس. خبر استقاه الصحفيون من ديوان وزير الثقافة..وأنا أتساءل لماذا لم تقدم اقتراحات أخرى لتمثيل تونس في القاهرة..
ماذا عن "خويا ليبر" خاصة بعد إعادة كتابة نصه بعد14 جانفي مواكبة للحدث؟
"خويا ليبر" عمل مسرحي نص منير العرقي وجمال المداني وإخراج منير العرقي..وقد قدمت مع منير العديد من الاعمال أمثال "بهجة"،"محارم"،"مائة نجمة ونجمة"..أما فكرة "خويا ليبر" فتتعرض الى عدة مواقف متباينة مع الناس يقوم "التكسيست" ( سائق التاكسي ) من خلالها بتقييم المستوى الأخلاقي الذي وصلت إليه الأغلبية. في "خويا ليبر" وضعنا أمام نصب اعيننا موضوع نقد المواطن التونسي لأن المجتمع التونسي حسب رأيي انحدر انحدارا كبيرا على المستوى الأخلاقي والفكري..و"الانحطاط" الذي يعيشه مجتمعنا هو بلا شك نتيجة لسياسة عامة في البلاد دامت عشرات السنين لتغيب جملة من القيم الاخلاقية كالصدق وحب الآخر.. لذلك أعدنا كتابة نص "خويا ليبر" على ضوء ما حدث في تونس بكثير من التفاؤل..كما اننا بصدد التفكير ب"خويا ليبر2" لعرض مساوئ المواطن التونسي التي يجب معالجتها لان الثورة ليست مقتصرة على سقوط النظام وليست سياسية بالاساس فهي تشمل كل المجالات..
لماذا كنت تنتقد الوان مان شو بشدة وها أنت تفكر في خويا ليبر2-؟
كنت أنتقد الوان مان شو باستمرار لأني لم ألاحظ يوما أنه ثمة عمل متميز..كما أن المسرح أصبح وكأنه يقتصر على الوان مان شو وهذا غير صحيح..لذا دافعت بكل اصرار عن هذا الراي نظرا لغيرتي على المسرح والجمهور التونسي..وبالرغم من تقمصي أدوارا في الوان مان شو على غرار"وصية" لأولاد أحمد باللغة العربية و"جاي من غادي" لنور الدين الورغي فإني ضد فكرة أن يصبح الوان مان شو ظاهرة خاصة فالعديد من الممثلين نجحوا في هذا النمط ولا علاقة لهم بالمسرح.. فمن واجبي ان انبه الى ان الوان مان شو ليس ظاهرة صحية..كما اعتبر "خويا ليبر" مونودراما وليس وان مان شو لانها تتضمن تسلسلا في الأحداث..بالرغم من الآداء الفردي في هذا العمل.
كيف ترى مستقبل الفنون في البلاد بعد14جانفي؟
الاكيد ان تونس ستشهد العديد من التغيرات ولكننا مازلنا نجهل إن كانت ايجابية أم سلبية..كانت السلطة هاجس الفنان قبل سقوط النظام وهو يسعى دائما الى التخلص منها وليس له حلا سوى التعبير من خلال أعماله الفنية..أما الآن فمهمة الفنان هي مواجهة المواطن التونسي وليس السلطة لأن درجة وعي المواطن وحجم انخراطه في الحياة المدنية وإيمانه بالقيم الحضارية والأخلاقية من شأنه أن يقي المجتمع من الإنحراف وعندما نكون أجيالا مثقفة واعية وراقية..يستحيل أن يحكمها طاغية..
زوجتك بصدد إنجاز دكتوراه حول المسرح في تونس هل أن جمال المداني هو من شجعها على اختيار هذا الموضوع أم نتيجة شغفها بهذا الميدان؟
زوجتي مولعة بالمسرح قبل أن تتطور علاقتنا..عملت بالمسرح الوطني واهتمت بنشرية المسرح بأيام قرطاج المسرحية..أما موضوع الدكتوراه التي هي بصدد إنجازها فستكون انطلاقتها من خلال مسرحيات تونسية قديمة كتبت باللغة الفرنسية.