بقلم: شرف الدين اليعقوبي يعتقد العديد أنّ النجاح الباهر الذي حققه حزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان في الإنتخابات الأخيرة يعود إلى اعتماد هذا الحزب على مرجعية إسلامية تقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية والالتزام بكل تعاليمها. ويعتبر بعض القادة السياسيين لأحزاب إسلامية عربية أنّ حزب العدالة والتنمية دليل على إمكانية نجاح الأحزاب الإسلامية في تسيير دواليب الحكم، بل ويروّجون لأحزابهم على اعتبار أنّها تسير على خطى حزب العدالة والتنمية وأنّها ستحقّق نفس النجاحات التي حقّقها هذا الحزب، فإخوان مصر وحركة النهضة في تونس وغيرهما من الأحزاب الإسلامية العربية يعتبرون أنّ حزب العدالة والتنمية يستلهم نجاحاته من نفس المرجعية التي يستلهمون منها مرجعياتهم. فما مدى صحة هذا الرأي؟ كانت انطلاقة حزب العدالة والتنمية على إثر انشقاق بعض الشباب المتفتّح و من بينهم رجب طيب أردوغان عن حزب الفضيلة بقيادة نجم الدين أربكان الذي كان يمثل الحزب الاسلامي الأقوى آنذاك في تركيا. وقد قبل الحزب عند تأسيسه أن يحترم الدستور بكافة بنوده بما فيها علمانية الدولة التركية، و لم يدع في برامجه إلى تطبيق الشريعة بل أكد على احترام الحريّات الدينية وهو ما يتطابق مع مفهوم العلمانية على المعنى الأمريكي الذي من خلاله تسمح الدولة بالممارسة الدينية في المجال العام وتقبل التعبير العلني عن الإنتماء الديني كلباس الحجاب لكنّها في المقابل لا تحارب من لا يريد ارتداءه، وذلك في مقابل العلمانية على المعنى الفرنسي التي تقصي الدين من الحياة العامة وهو المعنى الذي كانت المحكمة الدستورية التركية تدافع عنه عبر تأكيدها على فصل الحياة الإجتماعية و السياسية والتعليم والعائلة والإقتصاد والقوانين وطرق اللّباس عن الدين. وقد أكّد اردوغان في العديد من المناسبات عمل حزبه على تكريس الديمقراطية واحترام علمانية الدولة على الطريقة الأمريكية مقابل انتقاده لفكرة الدولة الإسلامية عبر رفض تسمية حزبه بالحزب الإسلامي. حيث صرح في مرات عدة بأنّ العلمانية ليست ضدّ الدين، واعتبر أنّ استعمال الدين لتحقيق مآرب سياسية مضرّ بالسلم الإجتماعية والتعدّدية السياسية ومضرّ بالإسلام في حدّ ذاته، مؤكدا على أنّ إيديولوجية حزبه هي أقرب إلى الديمقراطية المحافظة بمعنى المحافظة على تقاليد وأعراف وقيم المجتمع التركي ... وهو أمر يُعدّ من مجال الديمقراطية وليس من مجال الدين (الفايناشيول تايمز، 3 ديسمبر 2004). كما اعتبر في تصريح آخر صدرفي جريدة النيويورك تايمز في 11 ماي 2003 أنه لا يمكن أن يكون لحزب سياسي دين لأن الدين شأن يهم الأفراد فقط كما أن قداسة الدين تمنع استغلاله في أمور السياسة. قد يكون الاسلام أحد مكونات الهوية التركية التي يدافع عنها حزب العدالة والتنمية لكنه ليس مكوَنها الوحيد فهذا الحزب يدافع أيضا عن القومية التركية وعن قيم المجتمع التركي المحافظة ويفتخر بجذوره العثمانية لكنه يحترم في نفس الوقت مبادئ الديمقراطية والتعددية وعلوية القانون وحقوق الإنسان و ترسيخ المؤسسات الديمقراطية بدون أن يقصي أو يُكفّر أو يدعو إلى تكوين دولة دينية تمثل الحل. وهو ما يؤكد ماكتبه عبد الحليم قنديل في مقال نشر مؤخرا في جريدة القدس العربي من أنّ الحزب أقرب لعقائد الأحزاب القومية منه إلى الأحزاب الاسلامية على إعتبار أنّ في تركيا إدراكا قوميا للإسلام بما أن 99 % من الشعب التركي مسلم. كما أنّ تحليل القاعدة الإنتخابية لحزب العدالة والتنمية يبيّن أنّ هذا الحزب لم يسانده فقط الإسلاميون بل سانده يساريون ومثقفون من مختلف المشارب الفكرية جذبهم الخطاب المُقنِع والبرنامج الإقتصادي الطموح الذي أثبت نجاحه بعد أن كانت تركيا تسير نحو انهيار اقتصادي. مع الإشارة إلى أن أول انتصار حققه حزب العدالة والتنمية كان في انتخابات 2002 مقابل خسارة حزب الفضيلة الذي كان يصف نفسه بالحزب الإسلامي والتي لم يحقق فيها إلاّ 2,5 % مقابل 34 % لحزب أردوغان. إن ما أنجزه حزب العدالة والتنمية من نجاح اقتصادي جعل تركيا تحقق نموا اقتصاديا بلغ 8 % سنويا لتحتل بذلك المرتبة 17 عالميا من بين أقوى اقتصاديات العالم، ويعد هذا النجاح من بين الأسباب الرئيسية لصعود هذا الحزب فبعد أن كانت تركيا ترزح تحت نسب تضخم خيالية وتراجع اقتصادي وعدم قدرة على المنافسة و فساد مستشر في كافة دواليب الإدارة والاقتصاد تحولت إلى إحدى القوى الاقتصادية الصاعدة من خلال ما أنجزه حزب العدالة والتنمية من إصلاحات يعتبر العديد أنها جني لثمار إصلاحات بدأتها تركيا منذ الثمانينات. فالحزب اعتمد اقتصادا ليبيراليا منفتحا على الاقتصاد العالمي عبر تحرير التجارة وتقليص تدخل الدولة في الاقتصاد مما ساهم في بروز طبقة جديدة من رجال الأعمال أو ما يسمى بنمور الأناضول تميزوا بالحيوية وقوة المبادرة وساهموا في تحويل المراكز الصناعية لتركيا من المدن الساحلية الكبرى نحو مناطق الأناضول الداخلية. هذا التغيير ساهم في تحويل القوة الصناعية ورأس المال الذي كان مركّزا أساسا بين أيدي قوى صناعية علمانية نحو مالكي المؤسسات الصغرى و المتوسطة الأكثر محافظة وتدينا خاصة بالمدن المحيطة بالأناضول. كما أن النجاح الاقتصادي التركي لا يعود إلى اعتماده الاقتصاد الاسلامي أوالصيرفة الاسلامية فأغلب البنوك التركية غير إسلامية و السياحة التركية مزدهرة ومراكز التسوق المختلطة زاد انتشارها بعد وصول أردوغان للحكم، بل إن هذا النجاح يعود إلى تطبيقه لقواعد الحوكمة الرشيدة واعتماده للمعايير الاوروبية في كل المجالات مما ساهم في تطوير تنافسية المنتوج التركي. كما أن انفتاح تركيا على العالم العربي و الإسلامي بعد عقود من الجفوة هو بالأساس انفتاح اقتصادي على سوق ضخمة و غنية و ليس انفتاحا سياسيا فعلاقات تركيا بإسرائيل مازالت قوية كما أن حلم تركيا الرئيسي يبقى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. حزب العدالة و التنمية لا يدعو إلى تطبيق نموذج الحكم الطالباني و لا يستلهم أفكاره من الثورة الإيرانية بل هو حزب متفتح على الثقافة الغربية سواءفي الفكر السياسي أو النهج الاقتصادي وقد شق طريقه الخاص المعبّر عن خصوصية التجربة التركية عبر مراكمة مجموعة من التجارب ابتدأت من الخمسينات مع ظهور أول حزب بمرجعية إسلامية في تركيا و عبر التفاعل الإيجابي مع قيم الجمهورية التركية التي رسخها أتاتورك و هو الأمر الذي يجب أن تعيه الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في تعاملها مع الشعوب العربية التي تطورت فكريا وأصبحت مؤمنة بتكريس الدولة المدنية.