عادت تركيا بقوة الى الساحة الديبلوماسية، منذ تولي حزب العدالة والتنمية سدة الحكم سنة 2002 . حيث قامت بتعزيز دورها الاقليمي في حل قضايا المنطقة وموقعها في مركز العلاقات الشرق أوسطية، وأصبحت أنقرة محورا هاما من محاور السياسة الدولية لديها موطئ قدم في عملية صنع القرار الدولي. جاء ذلك بفضل سياسة خارجية مؤثرة، ديناميكية ومتعددة الابعاد أرست لها موقعا مركزيا في الساحة الدولية، رغم التناقضات الهائلة وسط محيطها. كما أنه لا يمكن أن نخوض غمار الحديث عن المكتسبات التي حققتها تركيا على الصعيدين الاقليمي والدولي دون التطرق الى مهندس هذه الديبلوماسية الفاعلة أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي. فمجرد متابعة هذه المبادئ الاساسية التي ارتكزت عليها هذه السياسة نجد أنها تطبيق عملي للنظريات التي وردت في كتاب أوغلو الذي صدر سنة 2001 تحت عنوان «العمق الاستراتيجي : موقع تركيا الدولي» وأكد على مبادئ محورية تضمن لتركيا دورا فاعلا وثقلا إقليميا ودوليا.
التوازن بين الحرية والامن
يعتبر هذا المبدأ الاولي بمثابة القاعدة الاساسية الذي بنيت عليه سياسة خارجية تركية أصبحت على درجة بالغة الاهمية ومؤثرة. والحقيقة أنه ما لم تحرص دولة من الدول على ضمان هذا التوازن، فإنها ستكون عاجزة عن التأثير في محيطها. كما أن مشروعية النظم السياسية يمكنها أن تحقق عندما توفر هذه النظم الامن لشعوبها، مع عدم تقليص حرياتها في مقابل ذلك. وإذا اتجه العالم برمته بعد أحداث 11 سبتمبر الى تقليص الحريات بدعوى التخوف من العمليات الارهابية، فإن نجاح تركيا في تحقيق هذه المعادلة الصعبة بحفاظها على مساحة الحريات الممنوحة دون أن يهدد أمنها لهي نقطة جديرة بالملاحظة وتحسب لصالحها.
العمق الاستراتيجي
يجمع مصطلح العمق الاستراتيجي الذي نحته أوغلو بين بعدين الاول هو البعد الجغرافي، بحيث أن تركيا تحضى بموقع جغرافي مميز يطل على رقع استراتيجية هامة مثل أوروبا والبلقان والبحر الابيض المتوسط والعالم العربي من جهة وروسيا واسيا الوسطى ومنطقة القوقاز من جهة ثانية. فهي مندمجة في الهوية الاوروبية والاسياوية والعربية في الان ذاته. بالتالي أهلتها جغرافيتها في أن تكون في قلب الاحداث في الغرب والشرق. البعد الثاني هو البعد التاريخي المقصود به هو الارث العثماني الذي انعكس على واقع الجمهورية التركية في كون سكانها هم خليط من قوميات وأعراق متنوعة تجتمع تحت مظلة الدولة التركية. فتركيا تتميز عن بقية دول العالم بإنتمائها لمناطق جغرافية متنوعة كمنطقة الشرق الاوسط بما فيها الخليج العربي والبلقان والقوقاز واسيا الوسطى، بالتالي هي دولة ذات هويات متعددة ولا يمكن حصرها في هوية واحدة.
صفر أعداء
سعت السياسة الخارجية التركية منذ تولي أوغلو الحقيبة الديبلوماسية الى تنظيف سجلها من الخلافات مع الدول المجاورة بدرجة أولى، نظرا لأنها من أهم متطلبات الدور الاقليمي التركي في محيطه الجيوسياسي، بإعتبار أن أي سياسة فاعلة تتطلب بيئة سليمة تحقق مصالحها بصورة لا تؤثر على مصالح الاطراف الاخرى وهو ما أخرج تركيا من بلد له مشكلات مع جيرانه الى حليف لهذه الدول. فقد عملت أنقرة على معالجة الملف الارميني كما عملت على التوصل الى حل فيما يخص قبرص. وأصبحت تربطها علاقات جيدة مع سوريا إلا أنها قد تعكرت في الفترة الاخيرة في ظل تعنت النظام السوري وتجاهله لنداءات رجب طيب أردوغان المطالبة بإيقاف الطريقة القمعية الشرسة التي يعتمدها بشار الاسد في التعامل مع الاحتجاجات في سوريا. كما أن علاقة أنقرة مع اليونان باتت جيدة بعدما كانت تخيم عليها التوترات في التسعينات من القرن الماضي، الى جانب بلغاريا وجورجيا كذلك. وسعت تركيا أيضا الى تحسين علاقتها مع ايران. والمحافظة عليها رغم حالة التوتر الدولي تجاه طهران بسبب ملفها النووي دون أن تعتريها أي اهتزاز، إضافة الى العراق.
الديبلوماسية النشطة
وصفت الديبلوماسية التركية بالنشطة ليس فقط لمساعيها الحثيثة من أجل التواجد في جميع المحافل الدولية بل استضافتها أيضا للمؤتمرات والقمم الدولية حيث احتضنت قمة «الناتو» وقمة منظمة المؤتمر الاسلامي فضلا عن استضافتها معظم المنتديات الدولية. كما أصبحت عضوا مراقبا في منظمة الاتحاد الافريقي سنة 2007 مما يعكس سياستها الانفتاحية. فضلا عن مشاركة رئيس الوزراء أردوغان في قمة الاتحاد الافريقي-الاوروبي التي انعقدت في مدريد وهي المناسبة التي هيأت لتركيا بأن تكون عنصرا فاعلا ومؤثرا في العلاقات بين الاتحاد الافريقي وأوروبا. فبفضل الديبلوماسية النشطة المنتهجة تمكنت الادارة التركية من فرض سيطرتها إقليميا حيث أصبح لها دور فاعل ومؤثر في محيطها. وأخرجت أنقرة من قوقعة التباعية ومكانة الطرف في المحافل الدولية والاستراتيجيات المرسومة من القوى العالمية العظمى. واتباع سياسة تقف في نفس مستوى الفاعلين وتقدم مبادرتها في القضايا الاقليمية والدولية لتصبح دولة «مركز» ليس فقط إقليميا بل دوليا والاندماج بمركز الهيمنة في المنظومة العالمية الذي يتشكل من القوى العظمى. وأصبحت تركيا، في ظل ثقلها الديبلوماسي في محيطها، حليفا لا يمكن الاستغناء عنه من قبل واشنطن حيث يوجد انسجام بين المصالح التركية والامريكية في المنطقة. وبات ينظر الى أنقرة ذخرا استراتيجيا للولايات المتحدة الساعية الى إعادة ترتيب أوراقها من جديد في المنطقة الشرق أوسطية في ظل التغيرات الجذرية التي لحقت بالمنطقة. وقد باتت إمكانية اندماج تركيا في منظومة الاتحاد الاوروبي واردة جدا، نظرا للمكتسبات التي ستحققها بلدان الاتحاد بضم دولة كتركيا لها وزنها إقليميا وتتمتع بعلاقات وطيدة مع البلدان المجاورة لها، وبطريقة أو بأخرى سيصبح المجال مفتوحا أمام بلدان الاتحاد الاوروبي لمزيد بث نفوذه في المنطقة. بالتالي بلدان القارة العجوز في حاجة ماسة الان الى ادماج تركيا ضمن الاتحاد الاوروبي .. وليس العكس.