سلمت القوات البريطانية أول أمس (الاحد)، مدينة البصرة إلى القوات العراقية بعد نحو أربع سنوات من الاشراف البريطاني والدولي على هذه المدينة الاعرق تاريخيا وثقافيا واقتصاديا بين المدن العراقية والعربية.. وتأتي عملية التسليم هذه، في سياق قرار الحكومة البريطانية التخفيض من قواتها خلال العامين القادمين من 5 آلاف جندي إلى 2500 فحسب، وتعدّ البصرة رابع محافظة عراقية يسلّمها البريطانيون إلى القوات العراقية خلال العام الجاري.. على أن عملية التسليم هذه، رافقتها ردود فعل مختلفة بين مرحب ومتخوف، فضلا عن قسم آخر من الذين أبدوا بعض التفاؤل المشوب بالحذر في وضع عراقي ينأى عن أية ثبوتية في التقويمات.. وإذا كان المرحّبون بتسليم القوات العراقية، ينطلقون من خلفية وطنية ترفض هيمنة الاجنبي ووجود القوات العسكرية على أراضي العراق، فإن التخوفات من قرار انسحاب القوات الاجنبية، تبدو أكثر جدية باعتبار أهمية البصرة ودورها ضمن الحسابات الاستراتيجية، العراقية منها والدولية.. فمن البصرة يجري تصدير أكثر من 90 بالمائة من نفط العراق نحو العالم، وأية عطالة في مستوى الانتاج أو عملية التصدير، تكلف الاقتصاد العراقي خسارة يومية بنحو 80 مليون دولار، وفق تقدير الخبراء.. إلى جانب ذلك تم الاعلان في وقت سابق عن تخصيص حوالي 700 مليار دينار عراقي لاعمار البصرة في غضون السنوات القليلة المقبلة، فيما تبدو المدينة، التي تحتل أهمية تاريخية وثقافية جدّ هامة، مرشحة لاستقطاب نحو 30 مليون دينار، هي مجمل الاستثمارات الاولية التي تقرر أن تخصص لفتح شركات صغرى ومتوسطة بغاية توفير فرص عمل في هذه المحافظة التي تتوفر على إمكانيات استثمار، أسالت لعاب رجال الاعمال في ضوء توفر مؤشرات كثيرة بهذا الاتجاه.. لكن هذه المؤشرات الواعدة، تبقى رهينة الظروف الامنية التي تمر بها المحافظة.. فالبصرة تتوفر على "وضع معقد" على حدّ تعبير جون ويلكس، الناطق باسم الحكومة البريطانية في المدينة، الذي قال لحظة تسليم "المفاتيح" الامنية للمحافظة، "إننا لا نسلم العراقيين أرضا من لبن وعسل"، في إشارة إلى الوضع الامني المتفجر في المدينة، استعصت لعدة سنوات على الجيش البريطاني والاميركي على حدّ السواء.. ولا يبدو أن مشاهد تلك الدبابات والعتاد العسكري الذي نقلته تلفزيونات العالم أول أمس، للتدليل على خروج القوات البريطانية ونهاية دورها في هذه المحافظة، يمكن أن تكون مؤشرا على نهاية مسلسل العنف والاضطرابات والقلاقل في البصرة.. فالمخاوف من حصول فراغ أمني في أعقاب هذا الانسحاب البريطاني، بدأ يتشكل لدى عدد كبير من المحللين، سيما في ضوء تعقيدات الوضع الميداني.. فثمة أزيد من عشرين كيان سياسي في البصرة، وتتحدث بعض التقارير عن وجود نحو 28 مليشيا تنتمي للطائفة الشيعية، وهي مسلحة بشكل جيّد، فضلا عن اختراقها لاجهزة الامن والجيش والمخابرات، وتوفرها على نحو 3500 سيارة شرطة، وسيطرتها على التقنيات اللاسلكية التي تستخدمها قوات الشرطة والجيش العراقيين، إلى جانب علاقاتها بالجار الايراني، الذي تقتني منه السلاح والعتاد.. ولا شك أن التعاون مع طهران، يعدّ مصدر التخوف الاكبر لدى الحكومة العراقية والجهات الاجنبية، على اعتبار أن ذلك، يمثل فرصة حقيقية لايران لتحويل اختراقها إلى نفوذ أكبر وأوضح في العراق، لا بل على البصرة، بوصفها محافظة نفطية بامتياز.. صحيح أن أعمال العنف انحسرت خلال الاشهر الماضية في البصرة، وصحيح أيضا أن ثمة توافقا بين التيارات السياسية المختلفة في المدينة، عبر ما يعرف ب "وثيقة الشرف" التي تم توقيعها قبل فترة، في سياق جهود التوافق العراقي العراقي على إحلال الامن والاستقرار في المحافظة، غير أن المراقبين لا يثقون في تلك التوافقات، نظرا لهشاشتها التي تخفي في رأي البعض، تناقضات عديدة، بل إستراتيجية بين هذا الطرف وذاك، سيما وأن الاطراف الموقعة على "وثيقة الشرف" تلك، يعتبرون جزءا من أطماع مختلفة، تتنازعها قوى خارجية متعددة، وبالتالي فإن الاستقرار الذي يتحدث عنه البعض، ليس سوى تلك "الشجرة التي تخفي الغابة"، غابة الحسابات والمصالح المتهافتة على البصرة خاصة، والعراق بوجه عام.. ويزداد الامر تعقيدا، عندما يدرج المرء معطى مهما يتعلق بوجود مليشيات من حزب البعث في البصرة، وهي المليشيات التي تتربص بأي فراغ أمني من أجل استعادة نفوذها الضائع في المدينة، وتصفية حساباتها مع خصومها من الاحزاب السياسية وفلولها العسكرية التابعة لها.. وتبدو البصرة، من خلال هذا الوضع الامني المفتوح على جميع الاحتمالات، في مقدمتها الاحتمالات الاكثر كارثية، بمثابة الامتحان للقوات العراقية، ليس في قدرتها على السيطرة على الوضع والابقاء على حالة الاستقرار الراهنة التي خلفتها القوات البريطانية فقط، وإنما هي امتحان لمدى أهلية الامن العراقي لقيادة الوضع الامني، بعيدا عن العيونالغربية وإدارتها للشأن العسكري في بلاد الرافدين.. هل تكون القوات البريطانية قد سلمت الحكومة العراقية، "لغما" قابلا للانفجار عليها في أية لحظة، بما يعزز نظرية "الاستمرار العسكري" الغربي في العراق إلى الابد، مثلما ترغب في ذلك الولاياتالمتحدة الاميركية، أم أن السنوات الثلاث التي قضتها القوات البريطانية والغربية في البصرة، نجحت خلالها في خلق "وضع أمني جديد"، تميل كفته لمصلحة الحكومة العراقية الراهنة، بما يبرر تسليمها المدينة؟ من المؤكد، وهذا أمر "لا يختلف فيه اثنان ولا يتناطح عليه عنزان" كما يقول المثل العربي أن عدم الاستقرار في البصرة، سيؤدي إلى توترات في المدن والمحافظات العراقية السبعة عشر الاخرى، وهو ما يجعل هذه المحافظة، ليست فقط أكبر امتحان للقوات العراقية، ولكنها كذلك، المحرار العملي لمدى نجاح "نظرية الامن" الغربية في العراق من جهة، وصورة مصغرة لاتجاهات المستقبل في بلاد الرافدين من جهة أخرى.. فهل تنجح القوات العراقية في هذا الاختبار الهام، فتقطع الطريق أمام الطامعين في البصرة وثرواتها الضخمة، أم تفشل وتذهب ريحها باتجاه الحديقة الخلفية الايرانية المتربصة بالوضع العراقي من كل الاتجاهات؟ سؤال ستجيب عليه الاسابيع والاشهر المقبلة... البريد الالكتروني: