طهران من مبعوثنا الخاص صالح عطية ثمة صورة نمطية تشكلت لدى الكثيرين منا، بين النخب أو في أوساط الطبقة السياسية، فضلا عن الرأي العام وقسم واسع من الاعلاميين، بشأن إيران.. فهي بلاد «التشادور» الذي يقمع المرأة ويعاملها ككيان مستلب الارادة والهوية والدور والوظيفة.. وهي ذلك البلد المتخلف اقتصاديا واجتماعيا، بفعل سياسة «الملالي» كما تسميها بعض التقارير الغربية أو تحت تأثير العقوبات الاقتصادية، التي تعاني منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ أكثر من عقدين من الزمن. وهي بلاد، حرية التعبير فيها مقموعة.. والشباب فيها تائه.. والمعارضة «على كف عفريت».. والفنادق فيها مثل الزوايا.. والشوارع مقفرة من النساء والفتيات.. والعاصمة، طهران، تنام منذ الظهيرة، في إشارة إلى غياب أي فعل ثقافي أو سياسي فيها... وهلمّ جرّا من التقييمات والملاحظات.. و»المصادرات» التي طالما استمعنا إليها أو قرأناها، واستوعبناها وكأنها «من باب تحصيل حاصل»، كما يقول المناطقة القدماء. غير أن الزيارة التي قمت بها إلى إيران، رفقة وفد من الاعلاميين والمثقفين ومكونات المجتمع المدني، أعطت انطباعا مختلفا تماما.. بل يكتشف المرء وهو يتجول في نواح من العاصمة الإيرانية، أو وهو يتحدث إلى بعض شبابها ومثقفيها ومسؤوليها، أنه أمام صورة جديدة لمجتمع حيّ، وبلد ينمو، رغم أن الدولة تمشي «على الجمر»، وسط حصار اقتصادي غربي تسنده بعض الدول العربية من هنا وهناك..
عاصمة بلا أمن !
فمنذ أن تحركت الحافلة من مطار طهران باتجاه الفندق، البعيد نحو 80 كلم تقريبا، يبدأ المرء في ملاحظة مستوى البنية التحتية الجديدة والضخمة والأنيقة.. فالطرقات نظيفة، تكسوها المساحات الخضراء والورود، وأغصان أشجار «الكالاتوس» المتدلية على جنبات الطريق، في مشهد ساحر بكل معنى الكلمة... والمحوّلات، تبدو في صورة لولبية تحيلك على مناطق عديدة من العاصمة.. والجسور مبنية بطريقة الاسمنت المسلح، لكن بزينة جميلة، ومسحة أندلسية أصيلة.. يتحرك الإيراني منذ الصباح الباكر باتجاه مقر عمله، لذلك تكتظ الطرقات وتشهد اختناقا مثيرا... واللافت في هذا الأمر، أنك لا تسمع صوت منبه السيارة، ولا تقف عيناك على خصومة بين إيرانيين بسبب عملية الاختناق هذه، فثمة سلاسة غير عادية في تجاوز الاكتظاظ، لا يعرفها إلا الإيراني ذاته، الذي ينفرد في هذا الإطار، بأسلوب سياقة لافت للنظر، يجمع بين السرعة والنجاعة وعدم التورط في حوادث طرقات، مع احترام كبير لإشارات المرور، مهما كان موقعها، حتى وإن لم يكن ثمة أعوان مرور يحرسون الطريق.. وعلى ذكر «الأعوان»، تبدو العاصمة (طهران)، خالية أو تكاد من الأمن الإيراني، فعلى امتداد الأيام الثمانية التي قضيناها هناك، ورغم أننا تجولنا في أكثر من بقعة من العاصمة، إلا أننا لم نعثر على مظاهر «عسكرة الشوارع» الإيرانية، إلا في بعض المناطق أو الأحياء التي تشهد مؤتمرات أو حراكا سياسيا أو دبلوماسيا.. بل حتى الفندق الذي أوينا إليه، كان خاليا من أعوان أمن بالزي الرسمي، رغم وجود سيارات أمنية كثيرة، كانت تتحرك مع الوفود والضيوف، وبعضها كان رابضا بالفندق، في إطار اجراءات حماية المؤتمرين الذين دعوا للمشاركة ضمن أشغال «المؤتمر الدولي الخامس لدعم القضية الفلسطينية..»
الصناعة.. لمواجهة الحصار..
ورغم ثقل الحصار الاقتصادي الذي تعانيه إيران منذ نحو عقدين من الزمن، ورغم ما يبدو من اهتمام رسمي بمسألة امتلاك النووي، إلا أن ذلك لم يكن على حساب الصناعة المحلية الإيرانية، التي بدت متطورة للغاية، واستطاع الإيرانيون «كسر» الحصار بواسطة الصناعة الوطنية، التي تبدأ من المخيط إلى السيارات.. إذ تتجول في المدن الإيرانية، سيارات معظمها من صنع إيراني، ثم تأتي السيارات الكورية واليابانية، وبدرجة أقل، الفرنسية (بيجو) التي تصنع كلها في إيران، فيما يستخدم شباب إيران الدراجات النارية السريعة بكثافة.. أما المواطنون فيستقلون حافلات «عمومية» أنيقة، لا تبدو عليها مشاهد الزحام المعروفة لدينا، لا في الصباح، ولا عند المساء.. الملفت في الشوارع الإيرانية، وجود سيارات أجرة «تاكسي» مختلفة الألوان (صفراء وخضراء وبرتقالية). وعندما سالت المرافق الإيراني للوفد التونسي، عن خلفية هذه الألوان، أفادني بوجود شركات عديدة، وكل لون يحيل على شركة محددة.. لذلك قلما يجد المرء مشكلة في الحصول على تاكسي أمام وفرة سيارات الأجرة في عاصمة تتسع لنحو 14 مليون ساكن، حوالي نصفها تقريبا من السكان النشيطين. لكن صناعة السيارات، ليست المظهر الوحيد للتحدي الإيراني للعقوبات الاقتصادية، فشتى الملابس النسيجية والقطنية، تحاك بأيد إيرانية وفي مصانع وطنية، وإن اتخذ بعضها شكلا فرنسيا أو إيطاليا، (أوروبيا بشكل عام)، فاليد التي خاطت وصنعت وكوت، إيرانية صرف. صحيح أن حضور الأتراك واضح في الأسواق الإيرانية، التقليدية منها والحديثة، لكن «مايد إين إيران»، هي العبارة المهيمنة على الملابس المعروضة في السوق الإيرانية... وهي ملابس أنيقة وبأسعار في متناول السائح التونسي، إذ لا يتعدى السعر أحيانا نصف ما يباع به عندنا.. استطاعت الدولة الإيرانية أن تتأقلم مع أجواء الحصار، ويبدو أن الشعب الإيراني قد تعود على «اقتصاد العقوبات»، لكن بأي ثمن اجتماعي؟ وبأي دخل اقتصادي؟ وضمن أي أفق سياسي؟