عندما حقق التونسيون نصرا سياسيا هاما بإزاحة الديكتاتورية فإنهم كانوا في الآن نفسه يعلنون عن تحولات جذرية وحاسمة في تاريخهم. ما حدث يوم 14 جانفي هو كذلك بل وأساسا إعلان عن نقلة حضارية بالنسبة للتونسيين الذين قطعوا الأغلال التي كانت تحول دونهم ودون عهد الحرية والديمقراطية. إن التحول الديمقراطي الذي انطلق فجر انتصار الثورة الشعبية ليس معناه فقط أن تتاح للتونسيين فرصة اختيار ممثليهم في انتخابات حرة وشفافة فحسب وإنما هي أعمق وأشمل على أهمية ذلك. إنها إعلان عن تحقيقهم لتوافق حول حد أدنى من المبادئ التي تخول لهم بناء السلم الاجتماعية التي لا يستقيم في غيابها أي عمل ولا يصمد أي بناء. الديمقراطية وكما يعرفها الخبراء هي إجراء وهي آليات وهي أيضا ثقافة. وها أن التونسيين بصدد بعث الآليات التي من شأنها أن تقود لحياة ديمقراطية وفق ما يتطلع إليها الشعب التونسي الذي ناضل من أجلها، ولم تأته كما هو معلوم على طبق بل على العكس فإن التونسيين قدموا شهداء وسقط منهم الجرحى وكانوا على استعداد لتقديم المزيد من التضحيات، لو أن هبتهم يوم 14 جانفي من العام الجاري لم تنته بخلع بن علي وفراره. يتوجه اليوم التونسيون إلى مكاتب الاقتراع لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي الذي سيكون المؤسسة الشرعية الأولى ما بعد 14 جانفي لأنها ناتجة عن صناديق الاقتراع والآلية الأولى بالتالي من آليات تنفيذ مطلب التونسيين في بناء الديمقراطية. ومن الطبيعي أن تقع على عاتق أعضاء هذا المجلس مسؤولية كبيرة وجسيمة فهم سيخطون الدستور التونسي الجديد الذي سينظم الحياة السياسية للتونسيين لفترة طويلة قادمة. وإذ يتطلع الناخبون إلى هذا الموعد الانتخابي الهام والتاريخي فإنهم يتوقعون من المجلس أن يكون في مستوى الطموحات التي رفعت الثورة الشعبية التي كللت بالانتصار من سقفها فبات التونسيون لا يقبلون بأقل من الديمقراطية الكاملة. إنهم يتوقعون أن يضمن الدستور ذلك وأن يسد المنافذ والمداخل التي يسعى من خلالها البعض إلى إرباك عملية التحول الديمقراطي. لكن التحول الجوهري الذي نتج عن وعي التونسيين بحاجتهم إلى التغيير ولم يكن بالتالي عفويا يفترض به أن لا يقود البلاد إلى الوراء. تعتبر بلادنا حالة فريدة في محيطها العربي والإفريقي فهي ذلك البلد الذي استطاع إلى حد كبير أن يحافظ على مميزاته وعلى إرثه الحضاري في الوقت الذي أظهر فيه قدرة على التأقلم مع ما يشهده العصر من تقدم لكن الديمقراطية لا يمكن لها أن تتحول إلى تقليد في المجتمع وتتحول إلى مسلمة تتوحد حولها الخيارات ويحتكم إليها التونسيون إلا إذا وجدت طريقها إلى عقلية التونسي. المسألة تصبح ثقافية واخلاقية أكثر منها سياسية. إن الديمقراطية اساسها الحرية في كل شيء. الحرية في الاختيار والحرية في التعبير والحرية في الإبداع. الديمقراطية تعني كذلك الاعتراف للآخر بالحق في الاختلاف والحق في التعبير عن اختلافه دون خشية الملاحقة ودون أن يحاسب على أفكاره. الديمقراطية هي فعل ثقافي لأنها تفترض الاتفاق على مجموعة من القيم الأخلاقية التي تجعل المواطن الفرد في مأمن من المضايقة بسبب انتماءاته أو معتقداته. الديمقراطية لا يمكن أن تعيش في تربة لا تسمح بتأسيس المواطنة الحقيقية بمعنى ذلك المواطن الذي يعي وجوده كفرد ويعي حقوقه وواجباته ويتصرف على ذلك الأساس ويتحمل مسؤوليته في المجتمع كاملة. وها أن التربة في تونس انتعشت واخضرت واعشوشبت بدماء شهدائنا، هؤلاء لم تسكب دماؤهم عبثا، لقد ضحوا بالغالي والنفيس، لقد ضحوا بالروح وقاموا بما أهم وتركوا لنا الطريق ممهدة. فهل نخذلهم؟؟؟