بقلم :رشيد خشانة تحتاج تونس في المرحلة المقبلة إلى حكومة قادرة على مواجهة الرهانات الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، الناتجة عن انحسار الاستثمار وتوقف العديد من المؤسسات الانتاجية عن العمل، ما سيُفاقم من أزمة البطالة، مع ما يستتبعها من احتجاجات اجتماعية وربما فلتان أمني لم يعد جديدا علينا. من هذا المنظور يُعتبر تحديد المهمة المركزية للحكومة شرطا ضروريا لتوصيف تشكيلتها واختيار رجالاتها. يبدو أن الاتجاه السائد هو الميل إلى حكومة حزبيين انطلاقا من النتائج التي حصدها هؤلاء وأولئك، مع ظهور منافسة غير خفية على المواقع. والحزبيون قد يكونون صالحين لمهمات محددة، لكن ليس أكيدا أنهم الأفضل والأقدر على معالجة ملفات معقدة تحتاج إلى خبرة وحنكة في إدارة الشأن العام. وفي الوضع الراهن الذي تمر به تونس ليس مُحبذا أن تكون الحكومة مدرسة للتجريب والتدريب، بل الأولى أن يُصار إلى حكومة خبراء قادرين على معالجة ملفات التشغيل والإستثمار والسياحة والفلاحة والبيئة وتراجع الصادرات وتزايد العجز في الميزانية واستفحال الفقر والتهميش وتفاقم الدين الخارجي... خاصة أنها حكومة مؤقتة، فالإنتخابات التي ستمنح حزب الأغلبية (أو أحزابها) فرصة إدارة البلاد هي الانتخابات المقبلة وليست انتخابات المجلس التأسيسي.
فرق بين البرلمان والجمعية التأسيسية
من غير المفهوم أن يُصرح البعض بأن الشعب أعطاه الحكم من خلال صناديق الإقتراع، بينما المجلس التأسيسي ليس جهازا للحكم. لكأن هؤلاء لا يُفرقون بين انتخابات تشريعية وأخرى رئاسية وثالثة تأسيسية، ولا ينظرون إلى الأمور إلا من زاوية واحدة. ما اقترع من أجله التونسيون يوم 23 أكتوبر هو جمعية تأسيسية وليس بأي حال من الأحوال برلمان حُكم. وعليه، أفلا تقتضي مصلحة البلاد اليوم إعطاء الأولوية الكاملة لصياغة الدستور وإعداد قانون انتخابي والتحضير للإنتخابات المقبلة؟ وهل يتصور المرء أن حكومة خبرتها مازالت غضة ستنهض بمهمتين تأسيسية وتنفيذية في وقت واحد؟ إن وضعنا في تونس يختلف عن أوضاع الديمقراطيات العريقة التي تكون فيها المعارضة جاهزة تمام الجاهزية لتسلم الحكم وإدارة الوزارات، لأنها تخضع لمنطق التداول والتناوب مع الفريق المقابل، حتى أنها كثيرا ما تُنعت ب»حكومة الظل». فالأولى عندئذ أن تتفرغ الأحزاب في هذه المرحلة لملف الدستور لكي تستكمله في الآجال المعقولة التي حددتها هي نفسها، ولا تنغمس في لعبة التموقع والتجاذب.
مصداقية «الإعلان السياسي»
أكثر من ذلك، تعهدت غالبية الأحزاب الممثلة اليوم في المجلس التأسيسي بالتركيز على وضع دستور جديد للبلاد، والتزمت بمحض اختيارها بتكريس كل جهدها في المرحلة المقبلة لإنجاز هذه المهمة. أتى هذا التعهد في وثيقة «الإعلان السياسي» التي وقع عليها رؤساء أحد عشر حزبا في حفل مشهود، بمبادرة من البروفسور عياض بن عاشور، قبل أسابيع من الإنتخابات، علما أن الأحزاب الموقعة باتت تشكل أكثرية ساحقة في المجلس التأسيسي. والنتيجة المنطقية لهذا التعهد، إذا كان له من معنى ومن مصداقية، هي النأي بالحكومة عن الخصومات التي قد يثيرها الجدل حول الدستور. وهذا يعني حتما أن يكون اختيار الجميع، ومن باب أولى أصحاب «الإعلان»، هو حكومة تكنوقراط تُسير المرحلة الانتقالية أسوة بكثير من التجارب المماثلة، القريبة منا والبعيدة. صحيح أن لنا خصوصيات وأن أهل مكة أدرى بشعابها ومُنحنياتها، لكن لن يكون الأنجع والأنفع أن تندفع الأحزاب إلى تقاسم المغانم من دون اعتبار لخصوصيات الظرف ولطبيعة المجالس التأسيسية. ليس الوقت وقت تدافع واختبارات قوة بين الفرقاء، وهو ليس فرصة لاستعجال القطوف الحزبية الدانية، وإنما لترتيب الأولويات موضوعيا، أي في ضوء المصلحة العامة وليس المصلحة الذاتية. بل إن الإندفاع إلى تكليف النفس بتأليف الحكومة، حتى قبل استكمال الإعلان عن النتائج النهائية، شكل مخالفة للأصول المرعية في هذه الحالات، إذ تقضي المراحل الشكلية بأن يجتمع المجلس التأسيسي أولا ويختار رئيسه أو رئيسته، ثم يكلف الرئيس بدوره شخصية من الحزب الفائز بأعلى الأصوات إجراء المشاورات لتأليف الحكومة. غير أن الأمور لم تتم وفقا لهذا النسق مثلما هو معلوم، مما يتطلب الكثير من الروية والتبصر لكي تُدار العملية السياسية بما يتقدم بالبلاد خطوة إلى الأمام، وليس وضعها على سكة المماحكات الحزبية. قسم المغرب العربي - قناة الجزيرة الفضائية