مثلما أثار قرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إسقاط عدد من قائمات العريضة الشعبية للعدالة والحرية والتنمية، الكثير من الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية، مثّل القرار الذي اتخذته المحكمة الإدارية أمس الأول، بقبول الطعون المقدمة ضد الهيئة، وبالتالي احتساب مقاعد العريضة الشعبية التي سحبت منها، معطى جديدا سواء في تركيبة المجلس الوطني التأسيسي، أو في المشهد السياسي والحزبي، أو على صعيد التحالفات المتوقعة بين العائلات السياسية التي يتألف منها المجلس التأسيسي.. كتلة جديدة..
فبعودة المقاعد السبعة للعريضة الشعبية، يُصبح عدد مقاعد هذا التيار 26 مقعدا، وبذلك يحتل المرتبة الثالثة بعد المؤتمر من أجل الجمهورية الذي حاز على 29 مقعدا في المجلس التأسيسي، وقبل التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (20 مقعدا).. ويطرح تقدم العريضة الشعبية، وضعا جديدا صلب المجلس التأسيسي، سواء تعلق الأمر بالإئتلاف الحاكم (الذي يقصد به حركة النهضة والمؤتمر والتكتل)، أو بخريطة «المعارضة البرلمانية» إذا صحت التسمية التي تبدو مفتوحة على احتمالات تحالفات عديدة.. ويرى مراقبون، أن العريضة الشعبية، التي أعلن «مهندسها» الإعلامي، الدكتور الهاشمي الحامدي، أنها تحولت إلى «كتلة» صلب المجلس التأسيسي، وستتحرك وفق هذه الآلية المعروفة في التقاليد البرلمانية، ستتسبب في الكثير من التطورات «الهيكلية» في المجلس، وسط وجود سيناريوهات عديدة في هذا السياق..
انزعاج.. وقلق..
فمن شأن هذا التيار، إضعاف «سطوة» المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي يعتبره بعض المراقبين الأقرب لحركة النهضة من حزب التكتل، خصوصا على صعيد التحالفات من أجل تشكيل الحكومة، أو على مستوى تكوين أغلبية «تأسيسية» تتيح لهما قيادة سفينة المجلس والحكومة في آن معا.. ويبدو وفق بعض القريبين من المؤتمر أن الحزب بدأ يشعر ببعض القلق جراء صعود تيار العريضة الشعبية، الذي بإمكانه في صورة التحالف مع حركة النهضة لوحدها أن يكوّن أغلبية أيضا صلب المجلس التأسيسي، إذ أن 89 مقعدا للنهضة، يضاف إليها 26 مقعدا لتيار العريضة الشعبية، يجعل معادلة النهضة + العريضة، تساوي 115 مقعدا، وهو ما يساوي (%50 زائد 7 مقاعد).. وهذا السيناريو لا يبتعد كثيرا عن معادلة النهضة المؤتمر، التي تساوي 89 مقعدا مع 29 بما يعني 118 مقعدا (%50 زائد 11 مقاعد)، وهو ما يشير إلى دخول العريضة الشعبية كمنافس جدّي على تحالف ممكن مع النهضة.. في مقابل ذلك، يبدو التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات في وضع أضعف إذا ما توخينا نفس المعادلة الحسابية.. إذ أن تحالف النهضة مع التكتل بمفرده سيؤدي إلى أغلبية محدودة جدّا (%50 زائد مقعد / 89+20 مقعدا).. وهو ما يعني من الناحية السياسية، تقلص حظوظ التكتل في لعب دور «قوة ضغط» على حركة النهضة، التي كان التكتل، والمتابعون للشأن السياسي، يراهنون عليها في سياق التقليص من أسبقية النهضة عدديا.. منطقيا، تبدو النهضة في وضع مريح من حيث إمكانات وسيناريوهات التحالفات صلب المجلس التأسيسي أو خارجه، أي بالنسبة للتشكيل الحكومي، لكن على المستوى السياسي، يمكن القول أن الحركة بهذا التطوّر الهيكلي الجديد، تبدو في وضع «بين بين»..
مستقبل الوفاق
فهي إذا ما استعاضت عن المؤتمر والتكتل، وتحالفت مع العريضة الشعبية مثلما يتوقع بعض المحللين ستكون قد أحرقت أهم وعودها التي أعلنتها بُعَيْدَ الانتخابات، وهو الرهان على حكومة ائتلافية وفاقية تشرّك من خلالها، أوسع عدد ممكن من الطيف السياسي، وبالتالي تفتح الباب على مصراعيه لمجلس تأسيسي قوامه يمين حاكم، ويسار معارض، وهو ما يجعل الوفاق في «خط ارتدادي»، ربما كانت له تداعيات على التجربة السياسية التونسية الوليدة.. وأما إذا ما استعاضت عن العريضة الشعبية، واستمرت في التشاور مع شريكيها في الحكم، فإن ذلك سيمنح «الوفاق» فرصة مهمة لكي ينضج ويتخذ شكلا من العمل السياسي تبدو البلاد في أمس الحاجة إليه في المرحلة الراهنة..
تساؤلات..
لكن كيف سيتصرف تيار العريضة الشعبية في هذا السياق؟ هل سيطالب رسميا بتشريكه في مفاوضات تشكيل الحكومة، أم سيكتفي بدور «الكتلة المعارضة» في المجلس التأسيسي، ويحاول الضغط على «الإئتلاف الحاكم» عبر المقترحات وممارسة نوع من أعمال «اللوبي» صلب المجلس التأسيسي؟ أم سيحاول فتح أبواب تحالف جديدة مع تيارات وحساسيات تبدو ضعيفة صلب المجلس، وقد تجد في «كتلة العريضة»، سندا سياسيا من شأنه تشكيل «قوة ضغط» على الإئتلاف الحاكم؟ هل يقترب الحزب الديمقراطي التقدمي مثلا، من العريضة، رفقة بعض القوائم المستقلة، وحزب المبادرة وحزب آفاق تونس، بما يوسع من دائرة «المعارضة البرلمانية» على أساس الموقف السياسي، وليس على الخلفية الايديولوجية؟ وكيف سيكون موقف «القطب الديمقراطي الحداثي» من هذا التطور اللافت في الخارطة الحزبية والسياسية صلب المجلس التأسيسي؟ هل يقترب من العريضة ضمن سياق تحالفي سياسي واسع؟ أم يظل على موقفه السياسي والايديولوجي، مراهنا على جمع شتات ما تسمى ب»الأحزاب الحداثية»، حتى وإن أدى ذلك إلى بقائه ضعيفا من الناحية العددية، التي تعدّ مهمة في اللعبة البرلمانية؟ أم أن الأحزاب والحساسيات الحداثية، تختار «الدور النقدي» بعيدا عن التأثير على صنع القرار السياسي؟ لا شك أن العريضة الشعبية، ستكون رقما بارزا ضمن معادلات المجلس التأسيسي، لكن ضمن أي تحالف؟ وبأي أفق؟ من المؤكد إلى حدّ كتابة هذه الأسطر، أنها ليست جزءا من المفاوضات حول تشكيل الحكومة، وليست طرفا في «الإئتلاف الحاكم»، ولم تطرق بعد باب المعارضة الحداثية»، كما لا يعرف ما إذا كان لهذه المعارضة استعداد للقبول بكتلة العريضة الشعبية ضمنها، ومن المؤكد أيضا، أن حركة النهضة، حزب الأغلبية في المجلس التأسيسي، لم تُبْدِ نيّة في التفاوض معها، ما يجعل «العريضة» أمام جميع الاحتمالات الممكنة: فإما رقم في معادلة الحكم وهذا ما يبدو مستبعدا في الوقت الراهن، أو رقم في الجانب المعارض داخل المجلس.. وهذا يتطلب تنازلات سياسية وإيديولوجية تبدو صعبة..