بقلم: د. مبروك بن موسى تعدّ الثورات الشعبية أعلى وأقصى درجات الرفض للأنظمة القائمة. وقد رفض الشعب التونسي النظام السابق وثار في وجهه. لكن على طريقته الخاصة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا. وإذا كانت أسباب قيام هذه الثورة المباركة هي بالأساس القهر والظلم والتهميش وهيمنة الحزب الواحد والرجل الواحد، فإن أهدافها هي الديمقراطية والحرية والكرامة والعدل والمساواة وتعدّد الأحزاب وحرية التنظيم والتعبير بصورة عامة والتداول السلمي على السلطة وسائر حقوق الإنسان. و قد أتاحت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي للشعب التونسي أن يعيش احد أهم هذه الأهداف. إذ مارس يوم 23 أكتوبر 2011 والأيام التي سبقته من الحملة الانتخابية الحرية في أجلى وأرقى مظاهرها. والآن وبعد ان قال كلمته فهو ينتظر أن يكون من اختارهم عند حسن ظنه. فيعدّون له دستورا يهيّئ له الأسباب التي تضمن له دوام الحرية والتعدّدية وتحقق له بقية أهداف الثورة. لكن تنوّع وتعدّد التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى المرجعيات الفكرية والإديولوجية لمن دخلوا المجلس أثار ويثير جدلا صاخبا حول تركيبة المجلس ومهامه، وحول من سيقود البلاد ويؤلّف الحكومة خلال الفترة الفاصلة بين إعداد الدستور وانتخاب رئيس ومجلس تشريعي للبلاد. أولا: تركيبة المجلس: لقد سمحت الانتخابات الأخيرة لعدّة أحزاب وقوى سياسية بدخول المجلس. مما أثار جدلا حول أغلبية وأقلية. لكن هذا الجدل وإن كان محمودا فينبغي ان يكون معقولا، ومطمئنا للرأي العام الوطني والدولي لأن البلاد في أمس الحاجة الى المزيد من الأمن والاستقرار. صحيح أننا سمعنا اشارات وتصريحات مطمئنة من بعض الأطراف المشاركة في المجلس. لكن المطلوب من كل الأحزاب وأصحاب القائمات المستقلة القبول بنتيجة الانتخابات واحترام إرادة الشعب والاكتفاء بالنسبة لمن لهم أسباب معقولة للطعن في هذه النتائج باتباع الإجراءات القانونية في صمت ودون إقحام للجماهير التي قد تفهم هذا النقد المبالغ فيه لمجريات الحملة الانتخابية بصورة تدعو الى الشك في شرعية المجلس وفي شرعية الحكومة التي سيدعو لتشكيلها، وما يترتب على ذلك من فوضى وانفلاتات أمنية لا قدّر الله، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن التسليم بنزاهة الانتخابات لا يسمح بالتشكيك في نتائجها. وإنما يخول فقط دراستها وتحليل مختلف دلالاتها واستخلاص النتائج والعبر منها، ولا سيما فيما يتعلق بتوجهات الناخبين والأسس المحدّدة لاختياراتهم والخطاب الملائم لاستقطابهم. هذا على مستوى التعامل مع الحدث، أما على المستوى القانوني فان تركيبة المجلس تتألف من كل من انتخب لعضويته. ويعدّ كل عضو فيه ممثلا لكل أفراد الشعب التونسي ومعبرا عن إرادتهم في صياغة الدستور، بصرف النظر عن الحزب الذي رشّحه أو الجهة التي انتخبته. إن طرح مسألة الأقلية والأغلبية في هذه المرحلة دون تفرقة بين سنّ الدستور وإدارة شؤون البلاد يفضي الى خلط بين مهمة ممثل هذه الأحزاب كأعضاء في المجلس الوطني التأسيسي وبين مهمّتهم كأعضاء في الحزب الذي رشّحهم. فأعضاء المجلس الوطني التأسيسي قد انتخبهم الشعب لصياغة الدستور على قدم المساواة بينهم، وعلى أساس أن كل واحد منهم يمثل سائر أفراد الشعب التونسي. صحيح، أن جلّ الأحزاب والمترشحين عموما إن لم يكونوا كلّهم قد ركّزوا حملاتهم الانتخابية على صياغة الدستور وعلى البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي ينوون اتباعها في صورة انتخابهم، وقدّموا للناخب وعودا مختلفة ومن الجائز أن يكون قد انتخبهم على أساس برامجهم أيضا لكن هذا الجانب من الحملة الانتخابية يبقى ثانويا بالنسبة لإعداد الدستور ولا يمكن أخذه بعين الاعتبار الا بالنسبة لتشكيل الحكومة وإدارة شؤون البلاد. أما بالنسبة للمشاركة في صياغة الدستور فلا مجال للحديث عن أقلية وأغلبية، لسبب قانوني ومنطقي واضح، هو إن نواب الشعب يكونون بصدد وضع نظام سياسي جديد ينظم بصفة دائمة السلط العمومية ولأمد طويل من الزمن، قد تتداول فيه على حكم البلاد عدّة أحزاب مختلفة في توجهاتها ورؤاها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكل حزب يتولى الحكم أو يشارك فيه سيكون مطالبا باحترام هذا الدستور. ومثل هذا التنظيم السياسي المؤبد للسلط العمومية أو شبه المؤبد لها لا يمكن ان يحترمه الجميع الا اذا صيغ للجميع. صياغة الدستور للجميع تعني بالأساس ان يكون هذا الدستور مكرّسا لجميع أهداف الثورة التي سبق أن حصل وفاق بشأنها وضمنت بديباجة المرسوم المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي. وتتمثل هذه الأهداف في إرساء صلب الدستور مشروعية أساسها الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة والتعدّدية وحقوق الإنسان والتداول على السلطة. هذا فيما يتعلق بما يقتضيه المنطق والقانون. أما ما سيفرزه الواقع فمن المحتمل أن يطرح هذا الطرف أو ذاك وجهة نظره من منطلق كونه أغلبية فائزة او أقلية مهيمنة، ولاسيما عند مناقشة القضايا الجوهرية كالهوية وشكل نظام الحكم او عند صياغة الفصول المتعلقة بالمبادئ الدستورية والحريات العامة. ومن الجائز أن يختلف أعضاء المجلس حول هذه المسائل وغيرها. لكن المؤمل ان يكون هذا الاختلاف إثراء للحوار وسرعان ما ينتهي الى وفاق. لأن الجميع يعلم أن كل من انتخب لعضوية المجلس التأسيسي ملتزم قانونا بتضمين أحكام الدستور الجديد كل أهداف الثورة التي سبقت الإشارة اليها. وتعدّ تلك الأهداف السقف الأدنى لما يجب أن يتضمنه الدستور الجديد من الحقوق والحريات. ولذلك سيكون التوافق حولها حتمية لا مفرّ للجميع من التسليم بها. الرئيس الأول السابق لمحكمة التعقيب