صالح عطية يبدو الوضع في تونس منذ انعقاد الجلسة الافتتاحية للمجلس التأسيسي، وكأنه يسير خطوة إلى الخلف.. فالنخب متخوفة، والأحزاب قلقة، وأعوان الأمن يتحركون لحماية الجسم الأمني من كل محاولة لتصفية الحساب معهم، وبعض الجهات تغلي على خلفية الملف الاجتماعي، بما يعني ذلك من بطالة وفقر وقلة ذات اليد، والحكومة المرتقبة تعد العدة لممارسة صلاحياتها، وسط تجاذبات شديدة في مناقشات اللجان صلب المجلس التأسيسي، بخصوص صلاحيات الرئاسات الثلاث، خصوصا العلاقة بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية.. يضاف إلى كل ذلك، عمليات التخويف المتكررة التي يصرح بها البعض، ويلمح إليها البعض الآخر، في توظيف غير مقبول أخلاقيا وسياسيا للرأي العام وللغاضبين على أوضاعهم المعيشية، بما يعطي الانطباع بأن الوضع في بلادنا مقبل على انفجار بين الحين والآخر.. من حق كل طرف اجتماعي أو سياسي، التعبير عن مخاوفه، وإبداء انتقاداته وحذره إزاء ما يجري، فذلك هو جوهر الممارسة الديمقراطية والتكريس الفعلي للحريات، لكن افتعال المشكلات، ومحاولة "تلغيم" الوضع بشكل يجعله مفتوحا على احتمال وحيد وهو الكارثة، واستخدام "منطق الفزاعات" لتكريس حالة من اليأس، وبالتالي تبرير تحركات اجتماعية وسياسية لاحقة، كل ذلك يدفع باتجاه نسف الاستقرار الأمني المتوفر حاليا، رغم هشاشته، وزرع بذور الإرباك أمام الحكومة التي لم تتشكل بعد، وخلق وضع جديد بين حالتي الثورة والدولة، في مشهد عام يئن تحت وطأة تحديات جسام، لا تنتظر الحكومة فحسب، وإنما تنتظر المواطن التونسي، في العاصمة والمدن الكبرى، وبخاصة في الولايات المسحوقة والأرياف المحرومة من أبسط ضرورات العيش الكريم.. فهل بهذه الخطابات الاحتجاجية و"الثوروية" يمكن أن نساهم في إخراج الوضع من عنق الزجاجة؟ وهل يمكن أن نبني وضعا سياسيا ونقابيا ومدنيا جديدا بواسطة حملات التشكيك والتخويف ومحاولات تفجير الوضع وتعفين مكوناته؟ أليس من مهمة النخبة والطبقة السياسية الرهان على الأمل بدل اليأس؟ وهل كتب على الشعب التونسي أن يعيش حالة من الاحتقان لم تتوقف منذ السابع عشر من ديسمبر؟ أليس من حق هذا الشعب الذي ضحى بالغالي والنفيس وبالدم وحتى بالاستقرار أحيانا، أن يخلد للراحة، وأن يتجه للمستقبل بعيون حالمة وليس بأذهان شاردة ونفوس قلقة؟ لا شك أن الوضع الراهن صعب، وتعقيداته في ثقل الجبال الرواسي، ونعتقد أن "شيطنة" الحالة الراهنة، والتعامل معها بمنطق حزبي ضيق وبلا أفق سياسي واضح، سيجر البلاد نحو وضع فوضوي، ولن يقتصر الاستهداف على ال"ترويكا" التي ستحكم كما يعتقد البعض إنما سيتجاوزه إلى استقرار الدولة التونسية واستمرارها، بل وسيمتدّ إلى الثورة التي يترقب التونسيون، والضعفاء منهم على وجه الخصوص، قطف ثمارها التي سالت دماء الشهداء من أجلها.. تونس في لحظة شديدة الحساسية، ولا يشك المرء لحظة في قدرة نخبنا وطبقتنا السياسية على الارتفاع إلى مستوى تحدّيات هذه اللحظة، مثلما كانت دائما في قلب الرهان الاجتماعي والشعبي عليها..