بقلم: بوجمعة الرميلي بعد ثورة 14 جانفي وانتخابات 23 أكتوبر طوت تونس صفحة كاملة من تاريخها الحديث ودخلت في مرحلة جديدة من أهم سماتها الأولية انهيار المنظومة السياسية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال ووصول أغلبية إلى الحكم تتصدرها حركة النهضة, الحزب السياسي الذي يخلط بين المرجعية الدينية والمبادئ الجمهورية في الحكم وما يترتب عن تلك المبادئ من الإقرار بعلوية القانون وبأن الشعب هو مصدر التشريع. وقد كان من الانعكاسات الخطيرة لهذه الازدواجية خلال الانتخابات الأخيرة اللجوء إلى تكفير الغير, كمنهج لحسم الخلافات السياسية. لكن الوضع يتسم كذلك بالضعف الفادح والتشتت الذي عليه الحركة الديمقراطية وما ينتج عن ذلك من انخرام هيكلي للوضع السياسي قد تجسد انتخابيا في تجاوز وزن الحزب الذي احتل المرتبة الأولى خمس مرات وزن الحزب الذي يأتي في المرتبة الموالية, وهو وضع يذكر بنظام الحزب الواحد, يجد تفسيره من جهة في عشريات المحاصرة والقهر والتعسف والمضايقة ولكن كذلك في التشرذم والتشتت والانفرادية والذاتية والزعامتية, التي حالت دون التفطن إلى خطورة المرحلة وان الخيار السياسي الوطني الأوحد لمرحلة ما بعد الثورة يتمثل في خلق التوازن السياسي الذي يجنبنا الانخرام المجحف الذي نعيشه اليوم والذي لا يترجم الوزن الحقيقي في المجتمع بعد أن أظهرت الانتخابات أن نصف المواطنين لم يشترك في العملية الانتخابية وان ثلث الأصوات وقع تفتيتها على مئات القائمات المشتتة التي لم تتحصل على أي مقعد. وبدل الاعتراف بهذا الوضع الانتقالي غير المتوازن الذي لا يمثل حقيقة المشهد السياسي تصرفت أحزاب 'الأغلبية الأقلية' وكأنه وضع نهائي, على أساس منطق الانتصار والهزيمة بينما ينتظر الشعب والبلاد بكل مكوناتها الحلول الوطنية الوفاقية والاستعجالية للخروج من الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم وإرجاع الثقة للمستثمرين وأصحاب الأعمال التونسيين والأجانب لكي يستعيدوا المبادرة بسرعة وبقوة في اتجاه إيقاف نزيف التعطيل الاقتصادي وفتح أبواب التشغيل أمام مليون من المعطلين. وأمام هذه الخيارات السياسية التي غلبت المصالح الحزبية على المصلحة الوطنية من خلال التهافت على المناصب وتقاسم الغنائم بدل الاختيارات التوافقية, وأمام ما ينتج عن كل ما ذكر سابقا من حيرة شعبية واسعة وقلق عميق وانشغال كبير على مصير الثورة ومستقبل البلاد, يتحتم على الوطنيين تقديم الإجابات التي ترتقي إلى متطلبات الوضع وتتجنب الترقيع والتلفيق وتتجاوز الأشكال التنظيمية التي تكرس الانقسامات المفتعلة, وذلك في اتجاه التأسيس لبناء إطار سياسي يهدف إلى تجاوز الانخرام الخطير في التوازنات السياسية, عن طريق تكوين حزب شعبي ديمقراطي جديد, لا يكون رقما إضافيا للأرقام الضعيفة المتعددة والمتنوعة وإنما يكون مشروعا وطنيا تأسيسيا متكاملا يوفر للمكونات العريضة -التي لا تجد نفسها في الأطر الحالية- ما يمكنها من توظيف طاقاتها في خدمة البلاد. إن بناء الحزب الشعبي الديمقراطي الجديد لن يتم لا عن طريق الراديكالية في رغبة «القضاء النهائي على المنظومات القديمة», تلك الرغبة والمنهجية التي لا تدري من أين تبدأ والى أين تنتهي, ولا عن طريق التخطيط المقنع أوالمكشوف لإجهاض الثورة بالإبقاء على نفس المنطق الذي أنتج التسلط والقهر والفساد, وإنما بالمراهنة على المستقبل وعلى بناء الجديد الديمقراطي من خلال مؤسسات المتابعة والمراقبة والمحاسبة وبالخصوص المشاركة الفعلية للشعب بكل جهاته وأصنافه الاجتماعية في صنع القرار الوطني المناسب للبلاد والعباد. إن بناء الحزب الشعبي والديمقراطي الجديد تأسيس وطني, ينطلق من أعماق تونس, في الأرياف والأحياء الشعبية, في كل المعتمديات والولايات, في شكل مؤتمرات تأسيسية تنبني على بلورة المطالب التنموية والاجتماعية والأطر الديمقراطية التي تدفع في اتجاه تحقيقها. ويتوج هذا المسار الشعبي -المفتوح والمنبني على طموحات الثورة في الحرية والمساواة والكرامة والعدالة والديمقراطية- بمؤتمر وطني تأسيسي يفضي إلى انتخاب قيادة وطنية رشيدة وممثلة وذات كفاءة, تهيّئ الحزب لخوض المعارك السياسية القادمة. إن فكرة تكوين الحزب الشعبي الديمقراطي الجديد تلتقي مع انتظارات كثير من المواطنين والمناضلين, سواء كانوا منظمين في أحزاب او غير منتمين, من جميع الأعمار والفئات والجهات, وستجد رواجا واستقبالا ايجابيين لأنها تعبر عن انتظار وطلب ديمقراطي واسع لم يبق من المطلوب إلا توفير العرض السياسي الذي يلائمه