تبادر إلى ذهني -وقد استوطنني الخجل إزاء حال منطقة الزقانة القديمة وادي النخالة الواقعة بأحواز مدينة المهدية التي تنقلت اليها- تباهي أحد "القياد" زمن دولة البايات امام سيّده الباي بأنه باع "على الضعفاء خيام بيوتهم... وتركتهم مع صبيانهم تحت أديم السماء للحر والقر" (1). "أيّة قسوة في بلادنا... 30 سنة دون ماء" بادرتني السيدة جميلة رفيفة ووجهها يشع إحباطا التي تعيش صحبة حوالي 30 عائلة في الزقانة القديمة وادي النخالة على حواف مدينة المهدية في مكان مهجور لا يرتاده الا العابثون والسكارى حسب رواية الاهالي. هنا أوقف الزمن دورته.. مقطع الحجارة المهجور.. مصنع الجبس المهمل.. لا رائحة الا للفضلات والمياه الآسنة.. هنا يتلاشى منظر البحر الازرق الصافي لنغرق في بحور من «الهم الازرق» فقد هربت هذه العائلات التي لفظتها المدينة من غلاء أسعار اراضي البناء حالمين ببناء مساكن لائقة تقيهم حرّ دفع الإيجار، فكان مآلهم العقاب بالنسيان والتهميش والتجاهل. قال المواطن الهادي الفضاخ أن البعض منهم قضى زمن الطفولة والمراهقة بلا نور كهربائي ولا ماء صالح للشراب، وهاهو يشرف على الشيخوخة وهو يكابد من أجل جرعة ماء. ورغم بركات الثورة التي جلبت لهم النور الكهربائي لازالت قرابة 30 عائلة بهذه الربوع الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من وسط مدينة المهدية دون ماء صالح للشراب. وأثناء هذا الريبورتاج أصرت السيدة جميلة على أن أصطحبها في رحلة الشقاء اليومي لجلب المياه من فسقية قديمة متهالكة، حوّلها المراهقون والسكارى إلى خمارة ومرحاض عمومي وأرتني الاوساخ التي يشربون منها.. هنا يدافع الانسان عن المربع الأول للحياة الكريمة مطلبه "جرعة ماء نظيفة".. هنا لا طريق غير الحفر والبؤس والملل وضجر أناس أعياهم الحِلّ والترحال على أبواب المسؤولين. خليفة السويح
(1) أحمد ابن أبي الضياف: أتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان "الجزء 5 ص 114".