رغم أنها لم تتشكل بعد بصورة رسمية، فإن الحكومة المرتقبة، ستتحرك وسط جملة من الألغام، بعضها ناجم عن المرحلة الراهنة وتعقيداتها، والبعض الآخر يجري افتعالها لاعتبارات سياسوية وايديولوجية خارج دائرة الصراع السياسي ومحدداته.. ما من شك في أن التركة ثقيلة، ومجالات الاصلاح متعددة، والمطالب واسعة، وحجم «الخراب» السياسي والاقتصادي والمالي والإداري فوق دائرة المعقول، وقد لا يجود علينا التاريخ بظرفية مماثلة، غير أن ذلك كله، بات من «تحصيل الحاصل»، لأن الأسابيع القليلة الماضية، منذ انتخابات الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي، عرفت «انتاج» ألغام جديدة من شأنها ارباك الوضع الراهن، والحيلولة، ليس دون نجاح الحكومة المرتقبة في الحد الأدنى المؤمل على الأقل، وإنما عدم افساح المجال لها لكي «تتحرك» و«تحاول»، و«تسعى» لتعديل ولا نقول تغيير بعض أدوات الواقع الراهن وملابساته..
استقالة الحكومة..
بداية هذه الألغام، جاءت من رئيس الحكومة الحالي، السيد الباجي قائد السبسي، الذي سارع الى تقديم استقالة حكومته لرئيس الجمهورية، في خطوة وصفت ب«المتسرعة» و«غير المعقولة» على اعتبار أن الحكومة الجديدة لم تتشكل بعد، ما أعطى الانطباع بوجود حالة من الفراغ السياسي والاداري، وزاد في حجم الضغوط على الفاعلين السياسيين الجدد، وتم تحميلهم في بعض وسائل الاعلام، مسؤولية عدم تشكيل الحكومة، بل تم اتهامهم بالتحضير للاستبداد وبالتباطؤ في تصريف شأن الدولة، رغم أن المجلس التأسيسي لم يبتّ في مسألة الرئاستين: رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، بل لم ينعقد أصلا منذ الجلسة الافتتاحية (22 نوفمبر)..
لغم البنك المركزي
ولم يكد التحالف الثلاثي يهضم «خطوة» استقالة الحكومة، حتى ألقى محافظ البنك المركزي لغما جديدا، عنوانه الوضع الاقتصادي المتدهور جدا، والظرفية المالية الصعبة للاحتياطي التونسي. ورغم ان هذا التقليد معمول به في الدول التي تحترم الرأي العام لديها، الا ان توقيت الاعلان عن ذلك، يطرح العديد من التساؤلات حول الخلفية والمقصد والهدف من وراء ذلك، خصوصا وان التحالف المرشح للحكم يتوفر على الارقام والمعطيات الاحصائية التي تشير الى ذلك.. ولعل اللافت للانتباه حقا، هو صدور بيان البنك المركزي، بالتوازي مع النقاش الذي طرح صلب المجلس التأسيسي وفي الاعلام وفي أوساط المجتمع المدني، حول ضرورة استقلالية محافظ البنك المركزي عن رئاسة الحكومة، وارتباطه برئيس الجمهورية، وهو النقاش الذي كان يصب في موضوع صلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيات رئيس الوزراء.. ما يعني ان بيان البنك المركزي، لم يكن معزولا البتة عن سياق تحركات بعض الاحزاب وعدد معروف من مكونات المجتمع المدني، التي يتكرر حضورها بذات الوجوه، في تحركات عديدة ومختلفة.. بالاضافة الى ذلك، سجل المراقبون اجتماع ما وصف ب"المجلس الامني" في القصر الرئاسي قبل يومين، الذي قرر "التنسيق مع الاطراف المعنية، لتأمين عملية تسليم السلطة في أحسن الظروف، وبطريقة حضارية"، وهو ما اعتبر خطوة إضافية، للتخلي عن السلطة، ورسالة إلى الفريق المرشح للحكم بضرورة الاسراع بتشكيل الحكومة المرتقبة، لكنه صنف في ذات السياق على أنه إجراء في غير توقيته، إذ من شأنه "توسيع دائرة الفراغ" السياسي والأمني في البلاد، رغم أن الإجراء يبدو جزءا من عملية انتقال السلطة للحكم الجديد. وفي كل الأحوال شكلت هذه الألغام الثلاثة، ورقات ضغط، تكمن أهميتها في كونها جاءت من الحكومة التي يفترض أن تبعث برسائل اطمئنان للرأي العام المحلي والدولي، وليس إعطاء الانطباع بأن الدولة التونسية في مرحلة "بين بين"، الأمر الذي أدخل الناس في حيرة وقلق..
"فخاخ".. وألغام..
على أن الحكومة الجديدة المرتقبة، وبصرف النظر عن تشكيلتها، تبدو في الواقع في غنى عن هذه "الخطوات" التي أقدمت عليها حكومة السيد الباجي قائد السبسي، فهي تواجه بطبيعتها جملة من الألغام و"الفخاخ"، حتى قبل أن تبدأ "ماكينتها" في الدوران بشكل رسمي.. ويمكن اختزال هذه "الفخاخ" والألغام في النقاط التالية: ٭ لغم التشكيك في الجدوى من التحالف الثلاثي بين النهضة والمؤتمر والتكتل، ومحاولة الدفع من داخل بعض هذه المكونات ومن خارجها باتجاه فك الارتباط بينها وإفشال أي إمكانية لنجاحها واستمرارها.. ٭ التشجيع على القيام "بعملية جراحية" لملفات الأمن والقضاء والفساد الإداري في المؤسسات العمومية، بحيث يدخل التحالف في مواجهة ليس توقيتها، مع أكثر الأجهزة تعقيدا، والتي تحتاج معالجتها مدة طويلة، علاوة على أن المساس بهذه الملفات في هذا الظرف الدقيق، قد يفجر الوضع السياسي والحكومي والأمني برمته. ٭ الحديث عن ضرورة إحداث تغيير واسع في تركيبة المديرين العامين للمؤسسات العمومية والوزارات، وهو لغم أشد خطورة، لأن الاقتراب من هذا الملف بلا خارطة زمنية، ومن دون أجندا واضحة وبعقل اجتثاثي، من شأنه إرباك الإدارة التونسية، التي أثبتت الثورة ومجرياتها وتطوراتها، أنها الحلقة المهمة في جسم الدولة التونسية، بحيث حافظت على هذا الكيان رغم سقوط النظام، وساهمت في انجاح الثورة.. فهل يقدم التحالف الثلاثي على فقء عينيه بنفسه؟! ٭ "تلغيم" الوضع الاجتماعي، سواء عبر الاحتجاجات هنا وهناك، التي تتخذ لبوس الحرص على ديمقراطية الدولة ووضع خريطة طريق للمجلس التأسيسي، أو من خلال الاضرابات والاعتصامات التي يبدو بعضها مفتعلا بغاية ارباك المشهد الاجتماعي، وهنا لا نقصد الاضرابات المشروعة التي تخضع لأجندة قطاعية نقابية واضحة. ٭ لغم الدفع باتجاه مراجعة اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي، وهو ما يعني وضع الحكومة المقبلة أمام فوهة تناقضات مع شركاء تونس الاوروبيين، بما يضع نسق المبادلات التجارية وخلق الاستثمار الاجنبي في البلاد، أمرا معطلا خلال المرحلة المقبلة.. قد تكون مراجعة الاتفاقية ضرورة، لكن التوقيت مرة أخرى، ينبغي مراعاته وعدم العجلة في هذا المجال. ٭ لغم الانسياق خلف الاستفزازات وعمليات التجييش التي يمارسها البعض تحت مسمى «الحراك المدني»، أو ضمن سياق «الرأي العام الحذر»، كما يردد البعض، وهي عمليات ضرورية اذا أخذت في اطار الرقابة على الحكومة والمجلس التأسيسي، لكن أسلوبها وسياقها وعناوينها، لا تبدو كذلك.. من الصعب على الحكومة المرتقبة، إن لم يكن مستحيلا أن تغير نظاما كان «أوهن من بيت العنكبوت»، واستبداله بنظام ديمقراطي على طريقة «الفاست فود»، لأن الديمقراطية سيرورة زمنية، وفعل تاريخي، أما من يعتقد عكس ذلك أو خلافه، فهو لا يفعل سوى التعسف على السياسة والتاريخ وعملية التحول في المجتمعات، وتلك مسألة أخرى، نأمل أن لا تنخرط نخبنا فيها.. فالوقت والظرف والاطار والسياق التاريخي، لا تسمح بذلك..