مر نحو الشهر على تشكيل الحكومة الانتقالية في نسختها الثانية بعد «تنقيتها» من رموز ووزراء النظام المخلوع وحزبه الذي صدرت امس الاول دعوة وزير الداخلية لدفنه ومواراته التراب.. ولاشك ان ملفات عديدة نظرت فيها الحكومة، لكن قرارات محدودة صدرت عنها، لا يبدو انها اقنعت الرأي العام والنخب والقوى السياسية في البلاد، لذلك تحركت المظاهرات والاعتصامات من جديد ضدها.. فلماذا لم تقنع الحكومة بمواقفها وطريقة آدائها؟ وما الذي يجعل الناس يسارعون الى الاعتصام في نوع من حجب الثقة عنها؟ التوقيت الخطأ في السياسة، التوقيت جزء مهم وأساسي من الموقف، والمتتبع لقرارات الحكومة الانتقالية، والكيفية التي تتخذ بها مواقفها، يلحظ ان الكثير منها تم بشكل بطيء، وفي الأفق الزمني غير المناسب، بل تبدو خطواتها شبيهة «بمشية السلحفاة»، في وقت تتسارع الأحداث، وتتراكم المطلبية الاجتماعية والسياسية، وتزداد مخاوف الناس من المستقبل، وبخاصة من مرحلة ما بعد الثورة، أي من الترتيبات التي ستنظم المشهد العام.. ويمكن للمرء ان يقدم جملة من الملاحظات في هذا السياق، أبرزها: * المطالبة المتأخرة بتسليم الرئيس المخلوع من السلطات السعودية * مطالبة السلطات السعودية لاحقا بتسليم زوجة الرئيس السابق فيما كان يفترض توجيه هذه الدعوة منذ فترة، ومن دون تجزئتها، سيما وان ملفات الفساد ونهب المال العام، والاجرام في حق الشعب التونسي، واضحة للعيان، ولا تحتاج الى قرائن وأدلة وتحقيقات من النوع الذي يستوجب أشهرا وسنوات.. * عدم إصدار قانون ينظم اللجان الثلاث التي تم تشكيلها (لجنة الاصلاح السياسي ولجنة تقصي الاحداث ولجنة التقصي حول الفساد والرشوة)، ما جعلها عرضة للتشكيك وفاقدة للشرعية.. * تعيين وزير للخارجية بعد أكثر من أسبوع على استقالة السيد أحمد ونيّس، ما جعل الدبلوماسية التونسية بلا «زعامة» في وقت كانت البلاد بحاجة الى تنشيط شبكة علاقاتها الخارجية ونسج جملة من التحالفات الجديدة التي تقتضيها المرحلة ويستوجبها الظرف المحلي. * عدم إصدار موقف بخصوص تصريحات السفير الفرنسي، وأسلوبه في التعامل مع الاعلاميين التونسيين.. الجدية.. والارادة السياسية ومثلما أن التوقيت مهم في السياسة، فان الارادة السياسية مسألة شديدة الأهمية بالنسبة لقرارات الدولة أو الحكومة.. وتبدو الحكومة الانتقالية، خلال شهر من عمرها، فاقدة للمبادرة، فأغلب مواقفها محكومة بردود أفعال الشارع التونسي، الذي بدا أكثر وضوحا وإصرارا على مطالبه.. وهنالك أمثلة كثيرة على ما نقول منها: تعيين الحكومة ل19 واليا (من مجموع 24)، تبين انهم من التجمع الدستوري السابق، قبل ان يضطر هؤلاء للانسحاب تحت وطأة الرفض الشعبي في الولايات.. الاكتفاء بتعليق نشاط التجمع قبل اعلان وزير الداخلية أمس الاول عن حلّه، فيما لو نجري استفتاء شعبيا على حل الحزب لكانت الارقام خيالية.. أما لماذا انتظرت الحكومة كل هذا الوقت، فهو السؤال الذي بدا غير مفهوم بالنسبة للرأي العام الوطني. السماح بالتقاط تلك الصور المستفزة عن الأموال «المخزّنة» في القصر الرئاسي بسيدي بوسعيد، من دون سند قانوني، وفي اطار خروقات، أثارت حفيظة المحامين والقضاة والطبقة السياسية في البلاد.. بل ان الذي تسبب في امتعاض الكثيرين، هو الأسلوب الذي تم التعاطي بواسطته مع هذا الموضوع.. فقد بدا الامر وكأنه فيلم وثائقي لا يخلو من بعض الطرافة، فيما ان الامر في تمام الجدية، وهو من صميم الموقف السياسي للحكومة التي كان يمكن ان تقدم من خلاله صورة عن جديتها في التعاطي مع شأن عام في غاية الدقة والخطورة.. صمت الحكومة عن تركيبة اللجان الثلاث للاصلاح وتقصي الاحداث والفساد، رغم كل الانتقادات والملاحظات، بله التحفظات التي ما يزال يبديها الكثير من السياسيين والحقوقيين، الامر الذي جعل التساؤلات تطرح حول مصداقية هذه اللجان، التي يتشكل اغلبها من شخصيات كانت استخدمت «كمعاول» لهدم ما تبقى من الدستور التونسي وقوانين الحريات ومعايير حقوق الانسان.. مأزق دستوري وبالتوازي مع ذلك، يمارس الفريق الانتقالي نوعا من الصمت إزاء الانتقادات التي توجه إلى شرعية الحكومة ذاتها، وبخاصة فيما يتعلق بالمأزق الدستوري الذي تتجه نحوه البلاد، في ضوء مقاربات فقهاء القانون الدستوري بشأن مدة الرئيس الانتقالي، واستحالة إجراء انتخابات رئاسية حرة بالدستور الحالي، وكيفية تحقيق الانتقال الدستوري والديمقراطي وتنظيم السلط. كما تبدو الحكومة في صمت غير مبرر إزاء مقترح «المجلس التأسيسي» الذي تطالب به عديد الأطراف السياسية والقانونية والحقوقية، للخروج من مأزق متوقع في أفق الشهر القادم.. وإذا أضفنا الى ذلك، الاصوات الكثيرة التي تتحدث عن عودة الرقابة الى أروقة المؤسسات الاعلامية، بشكل يبدو وكأنه استبطان للسياسة الاعلامية على عهد الرئيس المخلوع، وهو ما انكشف في الآونة الاخيرة من خلال آداء (التلفزة الوطنية) وبعض الصحف، فان الحكومة الانتقالية، لا تبدو الى حد الآن على الاقل منتبهة بالشكل المطلوب لاستحقاقات المرحلة المقبلة. صحيح ان الظرف صعب.. وحجم المطلبية في تراكم غير مسبوق.. والحكومة تمشي على الجمر بأتم معنى الكلمة، ولكن الارادة السياسية، تبدو الحلقة المفقودة في خضم الآداء الحكومي الراهن..