بروكسيل الصباح آسيا العتروس "قمة التقشف"، " قمة انقاذ اليورو"، " قمة المهمة الاخيرة"، "قمة الحسم"، "هل هي نهاية اليورو؟"، "مطلوب مزيد من الانضباط ... تلك بعض من عناوين كثيرة احتلت امس الصفحات الاولى للصحف المحلية والدولية في بروكسيل العاصمة السياسية غير الرسمية لاوروبا والتي جمعت على مدى اليومين الماضيين قادة الدول الاوروبيين وخبراء المال والاعمال لبحث مخرج لازمة اليورو في خضم الانقسامات والاختلافات وتضارب لعبة المصالح بين دول الاتحاد الاوروبي ال17 ودول منطقة اليورو السبع عشرة فضلا عن بريطانيا التي تفردت ومنذ البداية بموقفها الرافض لتعديل المعاهدة الاوروبية. وقد كان من الواضح مع انطلاق اليوم الاول لاشغال القمة أول أمس أن المفاوضات لن تكون سريعة أو هينة أمام تمسك نيكولا ساركوزي وأنجيلا ميركل بموقفهما المشترك من الازمة لتستمر بذلك لقاءات اليوم الاول للقمة الى وقت متأخر وتتحول بذلك برودة الاجواء على وقع انخفاض درجات الحرارة في الخارج الى أجواء ساخنة بين الحضور. فالرئيس الفرنسي ساركوزي الذي سيكون في مواجهة اختبار الانتخابات الرئاسية العام القادم يسعى لاقناع الفرنسيين بأنه الاكثر قدرة على الدفاع عن مصالح اوروبا واستمرار التحالف الفرنسي-الالماني وحماية مصالح بلاده في عصر العولمة. أما المستشارة الالمانية ميركل التي ستكون في مواجهة الانتخابات العامة بعد سنتين فآخر ما تريده الظهور بمظهر السياسي الضعيف أمام المعارضة في بلادها.. على أن ما لم يجد له موقع من الاهتمام في هذه القمة الاوروبية يبقى دون شك حجم وأبعاد تداعياتها على معاملات واقتصاديات دول شمال افريقيا لاسيما تونس التي تواجه العديد من التحديات والصعوبات الاقتصادية مع تراجع الاستثمارات واستمرار موجة الاضرابات والاعتصامات خاصة وأن تونس لها ارتباطات كثيرة على مختلف الاصعدة مع دول الاتحاد الاوربي ولن تكون بالتالي في مأمن من انعكاسات هذه الازمة التي تحتاج لأكثرمن لحظة توقف من جانب رجال الاقتصاد والخبراء والسياسيين المنصرفين الى الاختلافات السياسية... المستشارة ميركل لا تريد العودة الى بلادها بيد فارغة وقد استبقت القمة بتكرار موقفها السابق بأن اليورو فقد مصداقيته وأنه وجب استعادة هذه المصداقية ولهذا فعلى الجميع الاعلان وبوضوح عن التزاماتهم فيما يتعلق بالمسائل المالية. موقف لم يتغير على اعتبار أن ألمانيا لا تزال ترفض تسديد ثمن أخطاء الاخرين وهي تعتبر الى جانب حليفها الفرنسي ساركوزي أن تعديل المعاهدة الاوروبية أكثر من مطلوب وقد أطلق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي صرخة فزع عندما قال ان منطقة اليورو تواجه خطر التفكك وذهب جون ليوني الى ابعد من ذلك عندما أقر بأن اليورو أقرب ما يكون الى الانفجار ولن تكون هناك فرصة ثانية أمام الاتحاد الاوروبي وان تداعيات انهيار دول الاتحاد الاوروبي لن تؤثر على منطقة اليورو فحسب بل على دول العالم جميعا.. الا أنه وفي المقابل بقي الموقف البريطاني ومنذ البداية جدار صد للتوافق الفرنسي الالماني وتعديل المعاهدة الاوروبية يستوجب اجماع الدول السبع والعشرين. واذا كان رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون يؤكد بدوره على أهمية استقرار منطقة اليورو فإنه شدد على ان حماية المصالح البريطانية يعني أن تعديل الاتفاقية بمشاركة الدول السبع عشرة أمر مرفوض. الاصوات الرافضة لهذا التوجه لم تكن من دون أهمية وخاصة من جانب الدول المنتمية حديثا للاتحاد الاوروبي كما اتضح من موقف رئيس الوزراء البولوني عندما صرح بأن اوروبا تضم 27 بلدا وليس17 زائد البعض كما يراه البعض مشددا على ان الازمة الراهنة قد تشكل النعش الاخير في الجسد الاوروبي.
تحالف "ماركوزي" ينتصر ولكن...
وبالعودة الى أجواء القمة الاوروبية التي تأتي في أعقاب فشل الكثير من المبادرات السابقة، فقد جاء الاتفاق الحاصل بالامس ليسجل انتصارا ضعيفا لتحالف ميركيل ساركوزي بعد التوصل وفي اعقاب محادثات ماراتونية بشأن أزمة الديون السيادية التي تعصف بإقتصاديات دول القارة، إلا أن الاتفاق الذي ربما يتضمن تعديل معاهدة الاتحاد الأوروبي، لم يحظ بتأييد عدد من الدول الأخرى، من بينها بريطانيا. والارجح أن اعلان وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد اند بورز" قبل أيام اعتزامها تخفيض تصنيف 15 دولة بمنطقة اليورو، مع تفاقم أزمة ديون المنطقة كان له دوره في التعجيل بالقمة الاوروبية ولكن أيضا في الاتفاق بشأن تشكيل حكومة بلجيكية حيث يبدو أن المملكة كانت مهددة بهذا الاجراء. وأعلنت الدول ال17 الأعضاء في منطقة اليورو بالامس موافقتها على اتفاق جديد بين الحكومات الأوروبية، يتضمن تعزيز التكامل بين الميزانيات الوطنية لكل دولة، مع توسيع محدود لدور البنك المركزي الأوروبي، وحظي الاتفاق بتأييد6 دول أخرى بالاتحاد الأوروبي، من غير الأعضاء بمنطقة اليورو ومن المنتظر أن يدخل حيز التطبيق في مارس القادم. وقال ساركوزي الذي بدا منهكا "كنا نأمل في أن يحظى الاتفاق بقبول الأعضاء ال27" في الاتحاد الأوروبي، وتابع أن رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، تقدم بمطالب "غير مقبولة" لإعفاء بلاده من عدد من التنظيمات المتعلقة بقطاع الخدمات المالية. وانضمت المجر إلى بريطانيا في موقفها المعارض للاتفاق الأوروبي الجديد، بينما طلبت كل من السويد والتشيك منحهم بعض الوقت للرجوع إلى المجالس التشريعية في كل من استوكهولم وبراغ.
حكومة الفراشة
ولعله من المهم الاشارة الى أن بلجيكا التي تحتضن القمة الاوروبية تظل في موقف لا تحسد عليه فالحكومة البلجيكية التي تشكلت قبل يومين وبعد أطول أزمة سياسية تشهدها بلجيكا التي انتظرت خمسمائة وأربعين يوما لتشكيل حكومة من ستة أحزاب إئتلافية وهي لا تزال في انتظار مصادقة البرلمان اليوم ورئيس الحكومة اليو دي روبي الذي لا يتخلى عن ربطة العنق على شكل الفراشة حتى أن مختلف وسائل الاعلام في بلجيكا أطلقت على حكومته لقب حكومة الفراشة وهو يقف بدوره في مواجهة اختبار عسير ويدرك أن كل خطواته وتصرفاته وتصريحاته تحت المجهر وربما يكون من الصعب عليه اتخاذ أي قرارات قبل تحقيق التوافق بشأنها داخل التحالف الحكومي الهش. وعموما فإن رئيس الحكومة البلجيكية ليس الوجه السياسي الوحيد الجديد الذي يطل على القمة التي جمعت كذلك لوكا باباديموس رئيس وزراء اليونان الذي يخلف بابندرو الذي عصفت به الازمة الاقتصادية ونظيره الايطالي ماريو مونتي المطالب بوضع حد لسياسة الفولكلورالتي اتبعها برلسكوني الذي أطاحت به الازمة التي أثقلت كاهل ايطاليا بديون قدرت 1.900 مليار يورو، أما الاسباني ماريانو راجوي الفائز في الانتخابات الاسبانية قبل شهرفقد برز بالغياب فلن تبدأ مهامه رسميا قبل عشرة أيام وهو ما يجعل زباتيرو يتولى المهمة بدلا منه. وقع الازمة الاقتصادية على الحياة اليومية في بلد مثل بلجيكا ليس بالخفي والمملكة التي تعتبر محظوظة باحتضانها أغلب المؤسسات الاوروبية الى جانب منظمة الحلف الاطلسي ليست بمنأى عن تداعيات الازمة وبعيدا عن أسوار البيت الاوروبي والكواليس السياسية كان اهتمام المواطن العادي في الخارج مسلطا على الازمة الاقتصادية التي فرضت تداعياتها على الجميع في هذه الفترة الخاصة جدا في حياة الاوروبيين واستعداداتهم للاحتفال بأعياد الميلاد, اذ وبرغم كل مظاهر الزينة والتزويق والاضواء المثيرة على واجهة المحلات وتنافس أصحابها في استقطاب المارة الا أن الاقبال لا يبدو كبيرا أوهذا على الاقل ما يتضح من خلال الخطوات العاجلة للموظفين في طريق العودة الى بيوتهم في نهاية اليوم. ولهذا العزوف على المحلات التجارية تبريراته، ولا يتردد سائق الحافلة الذي كان يتولى نقل الوفد الصحفي العربي المكلف بتغطية مؤتمر وزراء خارجية الحلف الاطلسي الى مقر الحلف في الحديث عن الازمة الاقتصادية الخانقة وما فرضته على الجميع من اجراءات التقشف في ظل ارتفاع الاداءات وغلاء المعيشة الامر الذي أدى الى ظهور المزيد من المتسولين على قارعة الطريق واقلاع البلجيكيين عن الكثير من العادات مثل التردد على المطاعم في المناسبات والاكتفاء بالاحتفالات البسيطة على رأي محدثنا, فهل في تداعيات هذه الازمة ما يمكن أن يدفع المسؤولين لدينا في التفكير جديا في مختلف الاحتمالات التي قد تقترن بهذه الازمة وأولها تلك المتعلقة بتوقف عائدات المهاجرين من العملة الصعبة وربما أيضا احتمالات عودة الكثيرين ممن فقدوا أوسيفقدون موارد رزقهم؟