ثلاث تهم لا بد أن ينالك شرف أن تلصق واحدة منها بك إن لم تكن كلها، إذا صادف وأن عبرت اليوم عن رأي قد يفهم منه أنه لا يتفق مع مصلحة من يطلق عليهم اليوم بالأغلبية، بمعنى التحالف الحزبي الثلاثي بزعامة حزب حركة النهضة الفائز بأغلبية المقاعد بالمجلس الوطني التأسيسي.إنك إذن إما لا تفقه في حرية الصحافة، أو إنك كافر، وهاتان تهمتان خبرهما عدد هام من الإعلاميين الأحرار والناشطين الحقوقيين والمناضلين من أجل أن تكون الثورة شرارة متقدة حتى تبشر بالحرية الكاملة وبالديمقراطية الحقة وبالكرامة لجميع التونسيين.. وقد نبه العديد من المنابر الإعلامية لخطر مثل هذه التهم وارتفعت الأصوات محذرة من عودة الاستبداد بالرأي ومقاومة أي صوت مخالف، ومحاولة كتم أنفاسه في المهد بالتكفير والرمي بالجهل.. التهمة الثالثة وهي لمن ألقيت في وجهه وذاق لفح حممها عبارة عن زجاجة حارقة; إنها تهمة الحنين إلى عهد بن علي. إلى حد علمنا فإن صفحة بن علي قد طويت نهائيا بإذن الله ولا نخال أن هناك من به ذرة من عقل ويأمل في العودة إلى الوراء، لأن التاريخ الذي تكتبه الأمم بأيديها لا يعود إلى الوراء. ونذكر -والوقت غير بعيد- كيف أن الثورة التونسية كتبت بيد التونسيين فهي وبمجرد أن انطلقت شرارتها الأولى من سيدي بوزيد بالوسط التونسي حتى هب الجميع في تونس بشيبها وشبابها وبنسائها ورجالها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا إما للمشاركة أو للمباركة بشكل أو بآخر. لم تكن الثورة التونسية تلقائية كما يحلو للكثيرين أن يصفوها بل كان الناس خاصة من سلبت منهم كرامتهم وأعدادهم ليست بالآلاف بل بالملايين تنتظر اللحظة الصفر. سنوات طويلة من الظلم ومن القهر ومن التعدي على الحريات قتلت في التونسيين كل المشاعر الودية التي يمكن أن تربط بين الحاكم العادل والمحكومين. كان عهد بن علي عهدا مظلما، كيف يمكن للتونسي اليوم حتى من باب الفذلكة أن يتخيل ولو للحظة أن هناك من يأمل في عودة عجلة التاريخ إلى الوراء.. ولأجل ماذا؟ من أجل استعادة الديكتاتورية.. ورغبة في ماذا؟ رغبة في العودة إلى الظلمات بعد أن عم بلادنا نور الحرية.. إن رمي كل صوت يشتم فيه أنه صدق الشعارات التي قامت من أجلها الثورة وعلى رأسها الحرية والكرامة بمرض الحنين إلى عهد بن علي هو الإرهاب بعينه. لقد خرجت الأحزاب الإسلامية وسلفيوها ومعتدلوها وغيرهم أكبر المستفيدين من الثورات العربية ومن التحولات التي تشهدها المنطقة العربية فقد حققوا نصرا واضحا في تونس وفي مصر (إلى حد آخر النتائج المعلن عنها) وفي المغرب ذلك البلد الذي أراد أن يستبق الأحداث، ونكاد نراهن أنه من الصعب أن تختلف الأمور في ليبيا التي تحررت من ديكتاتورية القذافي، في انتظار أن يلوح ذلك في الأفق قريبا للشعبين السوري واليمني، وهذا المعطى الجديد من المفروض أن يخلق واقعا جديدا ويمنح الملاحظين الحق في أن يتعاملوا مع السلطة الجديدة المنبثقة عن التحولات الجذرية بثقافة جديدة، من أبرز آلياتها النقد وحرية التعبير. لكن الأصوات التي ترتفع يوميا منددة بحرية التعبير ومستاءة على طريقتها، وغالبا ما تكون الطريقة متعسفة، سلاحها السب والشتم والرمي بالتهم، وهي أبعد ما تكون عن ممارسة رياضة العقل ومقارعة الفكر بالفكر، لا يبدو أنها معنية بالديمقراطية، وإنما كل همها أن تحرس القلعة التي تم فتحها، وهي لا تتردد في استعمال منطق لا ينسجم مع قيم الحرية والديمقراطية. فإن لم نكن نخشى بأن نتهم بالدعوة لترك الشيء والإتيان به، لكنا أعدنا الكرة لأصحابها ولما ترددنا في أن نعلن أن كل المؤشرات تشي برغبة في توظيف نفس أدوات الديكتاتورية التي تقوم بالأساس على القمع وعلى رفض الرأي المخالف، ولكننا لن نقوم بذلك.. وسنحسب الأمور على أنها نتيجة جدة العلاقة مع السلطة وحداثة العهد بها. لقد كان الإسلاميون في تونس والمتحالفين معهم من الأحزاب الأخرى في موقع المناضل وها هم اليوم يحتلون موقع أصحاب السلطان، وكل صاحب سلطة في عرف العرب على ما يبدو يقضي وقته خوفا على ضياعها أكثر من الوقت الذي يمارس فيه هذه السلطة. المشكل أن العقليات تغيرت اليوم وأن التخويف والترهيب لم يعد لهما مكان في قاموس التونسيين منذ أن اندلعت الشرارة الأولى للثورة التونسية. لقد هجر التونسيون ثقافة الخوف، ولا قوة يمكن لها اليوم أن تعيد إلينا هذا الشعور المقيت بالخوف، فقد سبق وأعلنها التونسيون الذين نزلوا إلى الشارع أنه لا خوف بعد اليوم، وبالتأكيد لم تكن الأحزاب التي جنت ثمرة الثورة في طليعة المبادرين بالخروج إلى الشارع.. فعسى أن لا ينسوا ذلك.