يمكن حوصلة ما ورد في الحلقات السابقة على النحو التالي: ورث «بن علي بابا» كوزير أول ثم كرئيس للجمهورية عن سلفه محمد مزالي الوزير الأول الأسبق صحافة منكوبة تكاد تكون في حالة احتضار فتولى مهمة الإجهاز عليها وانطبق على الواقع الجديد ما قالته جريدة لوموند «بن علي لا يقتل الصحفيين لأنه قتل الصحافة». وكانت وسائله للوصول إلى هدفه هي «التمزي» برخص إصدار الصحف ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة على المقربين منه وعلى بعض المتعاملين مع اجهزة مخابراته العديدة وحجبها لا عن معارضيه فحسب بل حتى على المستقلين الذين لم يعرف عنهم أي عداء له. ثم «خلق» وكالة الاتصال الخارجي التي باتت توزع الأموال (الاعلانات وغيرها) بسخاء على من يقبل بيع ذمته من الصحف والصحفيين ودعم «بن علي بابا» هذه المنظومة الجهنمية بشل جمعية الصحافيين بتنصيب «جوقته» داخلها دورات عديدة وحتى ولئن حدث أن صوت الصحفيون لبعض الزملاء «الأحرار» فانه كان في هذه الصورة ينجح في شلها بتسريب بعض المندسين إلى هيئتها كما انه اغلق كل مصادر الخبر في وجه الصحفيين ثم اكتملت هذه المنظومة وبمباركة من بن علي باعتداء مالكي وسائل الاعلام ومديريها على حقوق الصحفيين المادية والمعنوية مما جعل أجور قسم لا يستهان به منهم لا تبلغ حتى ال»سميق» أي الأجر الأدنى المضمون وتركهم يعيشون في هشاشة مادية ومعنوية كبيرة. هذه هي الوسائل التي استعملها «بن علي بابا» لتركيع الصحافة التونسية أو بالأحرى قتلها ضاربا عصفورين بحجر واحد، فقد حيد بذلك احدى وسائل السلطة المضادة Un Contrepouvoir)) في أي جمهورية تحترم نفسها حتى يخلو له الجو سياسيا كما خلا الجو «مافيوزيا» إن صح هذا التعبير لعائلته الموسعة لتسرق وتنهب وتنتهك كل القوانين وتضطهد في أمن وأمان بعيدا عن أي رقيب أو حسيب. فتمخض عن كل ما سبق وضع نادر الوجود أو ليس له وجود في أي بلد آخر في الدنيا تمثل في: * هذا العدد الهائل جدا من المجلات والصحف (العهد الملاحظ المجلة السياحية.. الخ ...يقدر بالعشرات إن لم يكن بالمئات نعم بالمئات) لا يقرؤها أحد، وهي تخرج من المطبعة مباشرة إلى سلة القمامة أو لتباع ك»فواضل» لمعامل عجين الورق وهو أي «بن علي بابا» يرضعها من ثدي الدولة مغدقا عليها المليارات.. نعم المليارات من اموال الشعب وكان قسم هام من هذه المجلات والصحف التي ليس لها قراء ولا إشعاع من أي نوع خلايا مخابرات وتجسس على الصحفيين أنفسهم وعلى السفارات وعلى الأحزاب المعارضة ومكونات المجتمع المدني التي نجحت في الخروج عن طوعه. * وجود صحافة «صفراء» تمثل ذراعا مؤثرا لتنفيذ مخطط «بن علي بابا» الثقافي والحضاري المتمثل في تجهيل الشعب و«تسخيفه» (sa débilisation) وإبعاده عن الشأن العام وترهيبه ببث جو من الخوف والرعب لا من المعارضة السياسية له بل حتى من الاستقلالية لا غير، وقد تميزت هذه الصحافة أيضا بتضخيم.. اللاأحداث (la désinformation) من أحداث رياضية لا قيمة لها ولغيرها. كما قطع «بن علي بابا» بفضل وكالة الاتصال الخارجي وبفضل الحظر المفروض على المعلومات والإخبار الصلة بين الصحف العريقة وقرائها وذلك بأن جعل هاجس هذه الصحف لا يتمثل في عزوف قرائها عنها بل في توقف صنبور الإعلانات الحكومية عن إرضاعها. وحرص مجمل وسائل الإعلام في تونس على عدم إغضاب السلطة، هذا ما قلب أولوياتها فلم تعد المحافظة على قرائها ومحاولة اكتساب قراء جدد، أي السعي الى مزيد من الانتشار يعني بالنسبة لها شيئا بل أصبح في آخر اهتماماتها أحيانا وغدا رضى السلطة هو الهدف الأسمى. * وكان لهذا الواقع الجديد انعكاس على مستوى المادة التحريرية وعلى «النسيج الصحفي» نفسه فالمادة التحريرية لم تعد موجهة للقارئ بل أساسا «للحاكم» أما ما عداها فلم تعد له قيمة تذكر. ولذلك فقد تقهقرت اللغة الصحفية والمستوى العام للصحافة فدخلت عليهما اللغة السوقية المبتذلة والتعابير الركيكة وتراجع المستوى التحريري وأصبحت الأخطاء النحوية واللغوية سائدة حتى في عناوين الصفحات الأولى. ولم يعد يشترط في الصحفي ما هو أساسي ((sine qua non في كل صحافة العالم لإمساك القلم وهو إجادة الكتابة: وبما أن ما أسميته في الحلقات السابقة ب«الحوانيت» وهي الأسبوعيات «الصفراء» التي تبحث عن الإثارة والتلهية كان هاجسها الربح المادي فقد كانت تعتمد أساسا على المتعاونين (les pigistes) وهم فسيفساء متنوعة نجد من بينهم موظفين في مؤسسات حكومية ومعلمين وأساتذة تعليم ثانوي ولكن أيضا أنصاف وأرباع متعلمين من ذوي المستويات التعليمية المتدنية بما أنهم يرضون بأجور حقيرة جدا ولا أقول منخفضة بل هناك أحيانا من يقبل العمل بدون اجر بحثا عن الامتيازات التي قد توفرها مهنة الصحفي وتدريجيا أصبح هؤلاء «الصحفيون العرضيون» يمثلون النسبة الأهم عدديا من مجموع النسيج الصحفي في البلاد فاضعفوا نضالية الصحفيين كثيرا واختفت من مهنة الصحافة تلك القيم العليا، ككشف الحقيقة وإنارة الرأي العام والنضال من أجل الحريات، وخدمة الصالح العام.. بل غدت عملة «أنتيكة» لا تثير إلا السخرية والاستهزاء في نطاق المهنيين ذاتهم. (يتبع)