في إسرائيل قد لا يكون العام 2011 عاما كالأعوام الأخرى، عام تلقت خلاله إسرائيل عديد الضربات الاستراتيجية، وسقطت عناصر كثيرة من عقيدتها الاستراتيجية، ما تسبب في تغيير دراماتيكي في البيئة الجيوستراتيجية التي حرصت على إرسائها منذ نهاية الثمانينات. وإن كانت دعائم تلك البيئة الجيوستراتيجية قد بدأت في التبدد منذ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سنة 2000 وتواصل ذلك مع بداية تزلزل نظرية الجيش الذي لا يقهر في حرب جويلية 2006 ثم في عدوان الرصاص المصبوب على قطاع غزة في شتاء الفاصل بين سنتي 2008 و2009. إذن يمكن اعتبار أن العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، كانت من حيث محور الزمن، كارثية بالنسبة لإسرائيل، حيث ختمت ب"سقوط الفرعون" في مصر تحت وطأة غضب الشارع، الذي هز عروش دكتاتوريات عربية ظلت جاثمة على قلوب شعوبها ووفرت لتل أبيب عمقا استراتيجيا، من خلال نقل جبهات الحرب -طوال 30 عاما- إلى داخل المجتمعات والشوارع العربية، بين حاكم غاصب، وشعوب عربية سلبت إرادتها. هذه الوضعية الجديدة شكلت محور متابعة من الأجهزة الإسرائيلية منذ اشتعال فتيل "الربيع العربي" خاصة وأن الخبراء الإستراتيجيين الإسرائيليين واجهوا حالة من "عدم الإدراك"، وكثيرا من "عدم اليقين"، بدأ يصيبهم بحالة من ذعر، خاصة مع الإنسحاب الأمريكي من العراق. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أعلنها بصراحة في كلمة ألقاها أمام الكنيست قبل أيام من انتهاء العام الماضي، تحت عنوان "الأوضاع الجديدة وتحديات لم تتعامل معها إسرائيل منذ عشر سنوات"، حيث قال أن "عدم الاستقرار في منطقتنا برز بموجب تطورين أخيرين: نتائج الانتخابات في مصر، والواقع الجديد المتبلور في العراق". هذه الحالة دعت المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي، إلى الإشارة في مجمل تحليله للوضع إلى أن "الهزة الجارية في العالم العربي أدت وستؤدي إلى تحوّل استراتيجي إقليمي وتاريخي.. فحالياً، النتيجة الأهم هي الشك في فترة الانتقال الفاصلة بين الموجة الأولى من الثورات، وبين الوضع الجيوسياسي الجديد الذي سيتكون بعد عدة سنوات". يشاي القريب من دوائر المخابرات الإسرائيلية أضاف أن "أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية عاجزة تقريباً عن متابعة وفهم المزاج العام والأعمال غير المنتظمة في الشارع العربي"، مستنتجا أن "الشك المتواصل إزاء ما يجري في الساحات العربية يلقي بظلال صعبة على القادة في إسرائيل حيال إمكانيات تحديد ماهية التهديدات والفرص، وبالتالي الترجيح بينهما والاستعداد إزاءهما". تلك الحالة التي يشير إليها يشاي قد تكون منزلة ضمن مقاربة إسرائيلية تحتمل الأسوأ قبل الجيد، في تحديد الاستراتيجية التي يمكن أن تحكم إسرائيل في الفترة المقبلة لكن تلك التحديات لا يمكن أن تحتمل الخطأ. فالمتابع للتصريحات الإسرائيلية، اليوم، يدرك تلك النظرة الضبابية السائدة في المستوى السياسي، بين الائتلاف الحاكم والمعارضة اليسارية واليمينية، وفي المستويات الأمنية الاستخباراتية، والعسكرية التي تنظر بها إسرائيل إلى محيطها العام، وخاصة في اختيار الأولويات بالنسبة لها. فرغم أن إيران تبقى أهم ملف في الوقت الحالي بالنسبة للإسرائيليين، هناك من يوجه الخطر الأكبر بالنسبة لإسرائيل ناحية صعود تيار الإخوان المسلمين في مصر. وحتى طريقة التعامل مع الملف الإيراني تواجه إسرائيليا ضبابية كبيرة في التناول بين هذه المستويات الصانعة للقرار الاستراتيجي والسياسي الإسرائيلي. ففي وقت يشير فيه المستوى العسكري إلى أن الخطر الوجودي الإسرائيلي يكمن في "إيران نووية" فإن أجهزة الاستخبارات والمستوى الأمني -وعلى رأسها رئيس الموساد تامير باردو- يرى على العكس من ذلك أن "إيران نووية" لا تشكل خطرا وجوديا على إسرائيل. إذن يوجد في قلب أجهزة "الردع الاستراتيجي" (الجيش والاستخبارات) توجهان متعارضان أضفيا غموضا على طريقة عمل تلك الأجهزة، وزادتهما غموضا أكثر التصريحات المتناقضة في قلب الائتلاف اليميني الحاكم، المنقسم بين ضرورة الإسراع بشن ضربة وقائية ضد إيران (وهو موقف رئاسة أركان الجيش وأغلبية مجلس الوزراء المصغر "الكابنيت")، وضرورة الإنخراط في المجهود الدولي الذي ترمي من خلاله أمريكا وأوروبا تقويض أسس الاستقرار الإيراني، وتجفيف منابع تمويل مثل هذا المشروع، ومحاولة ضربه بالتركيز على العمليات السرية التي بدأها مائير دغان الرئيس المتخلي للموساد وهو الرأي الذي يتبناه شق وزير الحرب بارك والموساد و"الشاباك". رأي الموساد في مواجهة النووي، يتخذ نفس النهج الذي تسير فيه الولاياتالمتحدة وشرعت فيه منذ فترة، لكن مع الالتزام، بمحاولة إذكاء غالبية عسكرية استراتيجية لصالح طرفين في المعادلة الجديدة وهما دول الخليج من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، تكون فيه الغلبة النوعية والكمية لصالح تل أبيب. ففي الوقت الذي تعمل فيه أمريكا على مد دول الخليج بمنظومات دفاعية مضادة للصواريخ من نوع "باتريوت" و"ثاد"، وطائرات "آف 15" و"آف 16" وهي تكنولوجيا أمريكية قديمة بعض الشيء، تسعى لإمداد إسرائيل بطائرات شبح أمريكية حديثة من نوع "آف 35" المضادة للرادار وبطاريات لمنظومات باتريوت دفاعية معدلة وحديثة، إضافة إلى مشاريع تطوير لصواريخ إسرائيلية بعيدة المدى من نوع "أريحا" و"أورو". ولعل الولاياتالمتحدة ترمي من وراء ذلك، إحداث محور عسكري جديد في المنطقة، قد تقوده في السنوات المقبلة إسرائيل لإبقاء حالة المواجهة بين الجانبين في شبه توازن بين إيران من جهة والمحور الجديد من جهة أخرى. نظرة جديدة تعمل على إدماج تل أبيب في النسيج العربي ولكن عن طريق اشراكها في نفس بوتقة التهديد الآتي من "الفارسي الشيعي الإثني عشري الطامح لتحقيق أهدافه التوسعية في 'الهلال الخصيب'" والاتجاه به نحو تطبيع سياسي يأتي كنهه من الاشتراك في الهدف وهو مواجهة الخطر الفارسي. إذن هي استراتيجية إيجاد عدو مشترك، وهي استراتيجية مثالية بالنسبة للإسرائيليين الذين يريدون التخلص لا من "نووي إيران" بل من "النظام في إيران"، لأنها قد تمكنها من الاندماج الذي نظر له شيمون بريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد". لكن تلك الاستراتيجية المثالية قد تفرض على إسرائيل إثبات قدرتها على القيادة، وذلك من خلال إعادة إحياء نظرية "الجيش الذي لا يقهر" والبداية قد تكون من غزة..