لعبت دمشق خلال السنوات الأخيرة، دورا مميزا في السياق الإقليمي، حيث كانت «دينامو» ما عرف ب»قوى الممانعة»، أي سوريا وإيران وحزب الله في لبنان، والحكومة الفلسطينية المقالة في غزة... احتضنت سوريا المقاومة الفلسطينية، بجميع فصائلها وقياداتها، وفتحت لها أجنحة سياسية وديبلوماسية وإعلامية شديدة الأهمية وجعلت من دمشق العاصمة التي لا مفر منها لأية مفاوضات أو محادثات أو محاولات التسوية للقضية الفلسطينية خلال السنوات القليلة الماضية... وإلى جانب ذلك كانت سوريا «اللاعب الخطير» في التقدير الإسرائيلي والأمريكي في الملف اللبناني، وبخاصة في الحرب الأخيرة، حيث تتهم بأنها «جهة العبور» للأسلحة والصواريخ والمعدات الإيرانية اللوجستية لحزب الله، خلال حرب 2009 وما بعدها... والحقيقة، أن هذا الموقف السوري،غيّر الكثير من المعطيات في السياسة الإقليمية والدولية، فقد أوجد حالة من الاعتراض في ساحة عربية تهيمن عليها سياسة ال»نعم» التي كانت تقودها ما سمي ب»دول الاعتدال العربي» (السعودية ومصر والأردن...) وتغذيها الولاياتالمتحدة بحزام مغاربي، كانت سياسة النظام المخلوع في تونس الحبل الشديد فيه... لكن خلف هذا الدور الممانع، كانت تثوي سياسة استبدادية داخلية، شلت الأحزاب والمنظمات والجمعيات الأهلية، وأعدمت الصحافة التي كانت صدى لمواقف النظام الإقليمية، لكن بعصابة سوداء كانت تضعها على عينيها حتى لا ترى ما يجري في البلاد، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وسط هيمنة واسعة لأجهزة المخابرات، ولحزب حاكم، نجح في تفكيك أوصال المجتمع، وخلق فيه أشكالا متعددة من الفزاعات حتى جعله يخاف من بعضه البعض، وهكذا كانت «الممانعة» التي رفعها النظام خارجيا، تعكس هشاشة في السياسة الداخلية، ومصدر ضعفه بين شعبه ومواطنيه.. ولذلك، عندما قرع وهج الثورات العربية الباب السوري، وجد الأرضية متاحة.. إذ سرعان ما تغلغلت الاحتجاجات ودعوات رحيل النظام السوري، وامتد ذلك من حماة إلى حمص مرورا بدرعا، ووصولا عند قدسيا القريبة من العاصمة دمشق. حاول النظام السوري، بكل ما اوتي من جبروت وقوة وأدوات «الاستبداد الشرقي»، ان يضع حدا لهذا النهوض الشعبي.. فقتل وسحل وعذب واغتال المواطنين والنشطاء في الحركة الاجتماعية والسياسية والحقوقيين، وحصد الالاف من السوريين برصاص الجيش و»الشبيحة» وأجهزة المخابرات، وحوّل هذه المدن وغيرها إلى «مستعمرات» بحالة إنسانية موغلة في المأساة.. لم تنفع التدخلات الأوروبية، ولم تنجح الجامعة العربية ذاتها، ولا «أصدقاء» النظام السوري، سواء إيران أو قوى المقاومة، في استدراج النظام نحو إيقاف نزيف القتل اليومي ضد مواطنين، ذنبهم أنهم قرروا التحرر من ربقة الاستبداد، واستعادة كرامتهم التي أهدرها النظام لأكثر من 50 عاما. استخدم الحكم السوري، جميع أنواع المخاتلة، الإعلامية والدبلوماسية والسياسية، بل حاول تطويع «الفكر الاستراتيجي» لصالحه، من خلال الإشارة إلى أن سقوطه سوف يعني، هيمنة إسرائيل والأجندة الغربية، والمساس بالقضية الفلسطينية، وإضعاف طهران، ونهاية حزب الله في لبنان، وبالتالي استمرار الضعف والوهن العربي.. لكن النظام السوري نسي، أو تناسى، أن الثورات تجب ما قبلها، وتصنع رموزها، وتبني تحالفاتها بنفسها، وتضع لبناتها التأسيسية الجديدة، مثلما تحدد خصومها ومجال صراعاتها، وحلقات التجاذب معها وضدها.. الثورة في سوريا، لم تكتمل بعد، لكنها في الهزيع الأخير من الليل الدمشقي الذي طال على السوريين، وهم اليوم، مصرون على إنهائه وفتح الوضع هناك، على صبح جديد، سيغير الكثير من المعادلات في سوريا والمنطقة وضمن خريطة التحالفات الدولية.. عام 2011، عام سوري بامتياز أيضا... لأنه عام التغيير الحقيقي في دمشق..