التصريح الذي أدلى به السيد حسين العباسي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل أمس، يثير الكثير من التساؤلات والاستفهامات.. العباسي اكد بأن «%80 من الاعتصامات والاحتجاجات لا علاقة لها بالاتحاد»، ومعنى ذلك أحد أمرين اثنين: إما أن يكون الشعب التونسي خرج في ثورة ثانية بلا قيادة سياسية أو نقابية مثلما حصل في ثورة 14 جانفي ، وهذا ما تفنده الوقائع، أو أن أمر هذه التحركات مدبر ومخطط له، وبالتالي فنحن أمام وضع جديد وخطير في آن معا.. لكن من يقف حقيقة خلف هذه الاحتجاجات؟ ومن المستهدف بها؟ هل هي «الترويكا» التي تحكم، أم الحكومة، أم البلاد برمتها؟ ومن يريد أو يسعى لمقايضة الشعب التونسي بالفوضى واللا استقرار؟ ثم وهو السؤال الأهم ما الذي يبرر مثل هذه الاحتجاجات دفعة واحدة، وعلى مستوى الشريط الغربي المحروم تحديدا؟
وقائع وحيثيات
أسئلة ملحة، يثيرها تصريح الامين العام لاتحاد الشغل، لكن هذه الاسئلة تزداد خطورة عندما نستعرض الوقائق والحيثيات والتصريحات التالية: * تصريحات عديد السياسيين وأعضاء في المجلس التأسيسي ونشطاء في المجتمع المدني بأن الحكومة لم تستوعب التحديات، وأنها معزولة عن المواطنين، وبأن ثمة «أزمة ثقة» بينها وبين الشعب التونسي.. * تحريك مجموعات بذات الوجوه، ونفس الشعارات للاحتجاج أمام المجلس التأسيسي وقبالة الولايات، وحتى أمام عديد الوزارات التي لا صلة لها بالتشغيل أو تحسين الوضع المعيشي (العدل والخارجية والتربية..) * بروز عناوين صحفية تصب في ذات الاتجاه، على غرار: «الثورة التونسية على وشك الانتكاس»، و«ولايات تهدد بالعصيان المدني» و«هل ندم ناخبو الترويكا».. وهي عناوين تعد وإن عن حسن نية جزءا من «خطة التهويل» التي يمارسها البعض ضمن سيناريو «اللوحة السوداء» التي تقدم الوضع بهذه الصورة الكارثية التي تحيل على ضرورة الانقلاب على الحكم، والحاجة الى استبداله.. * استخدام «ورقة» الفقر والبطالة ضمن خطاب سياسي وإعلامي يطفح بالمزايدة والرغبة في إشعال فتيل الفوضى.. * التلويح ببوادر العصيان المدني، رغم أن الحكم الراهن نابع من الشعب ولا تديره مؤسسة عسكرية، وذلك بغاية إقناع المواطنين بأن الوضع عاد الى نقطة الصفر، وأن الحل للخروج من المأزق، يكمن في شكل من أشكال الثورة، يريده البعض أن يكون عصيانا مدنيا.. * ادعاءات ومزاعم البعض بأنهم باتوا مهددين بالقتل، أو أنهم تعرضوا للعنف، وهو ما يعني خلق بطولات زائفة من ناحية، وإيهام الناس والمراقبين من ناحية اخرى، بأن الحكومة تمارس العنف وتهدد به لمن يخالفها الرأي، وأن صدرها ضيق بمن يعارضها، وبالتالي فهي مشروع استبداد.. وهذا ما يبرر لاحقا الانقلاب عليها.. * تخفي بعض قيادات الاحزاب خلف بعض الصحف والمنابر الاعلامية، التي باتت تنطق وتعكس وجهة نظرهم، الراغبة في إفشال الائتلاف الحاكم، وجعله ينهي مهمته على رأس الدولة بحصيلة صفر من المكاسب والمنجزات..
تصريحات.. وتسريبات
* شروع البعض في نصب كرونومتر لعد الفترة المتبقية للحكومة (عام واحد)، في ظل حرص شديد على ان تنهي مدتها الانتخابية «التأسيسية»، من دون أن تتقدم قيد أنملة في حلحلة الملفات السياسية، لان هذه المهمة من مشمولات «حكومات الظل» التي يتحدث عنها كثيرون. * حديث بعض الساسة عن وجود حكومات وبرامج جاهزة لادارة الدولة، وتنفيذ سياسات للتشغيل والاستثمار وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين، وتحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للتونسيين.. وما ينتظر هذه «الهلم» كلها، سوى ذهاب الحكومة الحالية المنتخبة، لكي يحتلوا مكانها، حتى وان لم يخترهم صندوق الاقتراع.. * تسريب مشاهد على الانترنت والفيسبوك تمس من شرف وزير الداخلية السيد علي العريض، ضمن مسعى لاثارة المواطنين ضده، وهو ما يعني أن تحالفا يجري حاليا بين بعض المجموعات وأحزاب سياسية مع كوادر أمنية، انزعجت من التعديلات الحاصلة مؤخرا في مستوى وزارة الداخلية، وراهنت على اسقاط الحكومة لاسترجاع مواقعها، وهو نفس ما حصل للحكومة السابقة، والسيد الباجي قائد السبسي أصر على المواجهة واحتكم للشعب التونسي، فربح المعركة..
سيناريو.. وثلاثة احتمالات
واضح من الاحداث المتكررة حاليا منذ عدة أسابيع، والتي ازدادت وتيرتها خلال الايام الأخيرة، ان السيناريو المخطط له يتمثل في احدى الاحتمالات التالية: * تفكيك التحالف الثلاثي الحاكم، بشكل يعزل حركة النهضة، ويضعف حجمها صلب المجلس التأسيسي بما يقرب الاقلية من التكتل وحزب المؤتمر واعادة تشكيل التحالفات صلب المجلس. * إفشال الحكومة في مهمتها التي انتخبت ومنحت الثقة من اجلها، ونعني هنا، تحسين الوضع المعيشي للمواطنين، وتوفير فرص العمل للمعطلين، واحداث التوازن الجهوي.. وبالنتيجة لذلك، تخرج الحكومة بلا حصاد خلال الفترة المقبلة، يكون مدخلا «للإجهاز» عليها انتخابيا بعد نحو عام من الآن.. * دفع حركة النهضة للشارع بما يؤدي الى انفجار اجتماعي وسياسي، تكون نتيجته تدخل المؤسسة العسكرية في الحكم، وهو الاحتمال او السيناريو/ الاحتياط الذي كان ردده البعض قبل عدة أشهر.. أو دفع وزارة الداخلية الى ممارسة العنف ضد «المحتجين»، بما يجعل الامن والحكومة امام مساءلة شعبية واسعة، لانه من غير المعقول اليوم ان تمارس حكومة الثورة العنف ضد أبناء الثورة التونسية، كما يريد البعض ان يرسخ في اذهان جزء من الشباب التونسي.. نحن حينئذ امام وضع مفصلي في تونس، وعلى الاحزاب وفعاليات المجتمع المدني الرافضة لهذه السيناريوهات، أن تخرج عن صمتها، وتكون واضحة امام الشعب التونسي، فيما تبدو الحكومة اليوم امام خيار لا ثاني له، وهو: مصارحة شعبها بالحقائق والملفات والاسماء والمعطيات، وجعل الشعب التونسي شاهدا على ما يجري وليس مجرد متقبل لهذه الاحداث والتجاذبات.. تونس تمر بفترة حرجة، لكنها للأسف بأيدي بعض أبنائها ومواطنيها، وهؤلاء لن يقلعوا عن هذه الممارسات الا بفتح حوار وطني واسع مع جميع الاحزاب والمجتمع المدني، يقع بثه على الهواء للتونسيين، تطرح فيه جميع الملفات والمشكلات بصراحة، لكي يستبين الخيط الابيض من الاسود، فأما بناء الدولة التونسية الديمقراطية المدنية بأوسع قدر من المشاركة الشعبية وهذا يقتضي فسح المجال أمام الحكومة للعمل والتحرك، واما إتاحة الفرصة امام البعض للارتداد على الثورة والنكوص على اعقابها.. فماذا ستختار الحكومة والطبقة السياسية؟