بين "أخاف عليك"... وبين ما تحمله حقيبته التي يتأبّطها من أسرار- أبى أن يطلعنا عليها - اختزال لتجربة 20 سنة من الكتابة الشعرية اصطبغت بألوان شتى من الصور الشعرية تغنّت بها حناجر أشهر المطربين التونسيين.. في رصيده زهاء ال400 أغنية و12 تتويجا وفي قلبه حب للشعر الغنائي لا نظير له أما في عيونه فأحلام وطموحات لا حدود لها... كتب عن "الغربة" و" الحومة العربي" و"الحصار" و"طير الحمام" و"الدلولة" فتخطت كلماته حدود وطنه لتحلق في فضاء الساحة العربية الرحب.. ولتدحض إحدى أشهر" الأكذوبات " التي تقول إن "الكلمة التونسية" لا تقبل لأنها لا تفهم. ذلك هو الشاعر الغنائي حاتم القيزاني الذي تحدث إلينا بصراحة وفصاحة عن نفسه. .عن الوضع الراهن للأغنية التونسية.. عن مهرجان الموسيقى وعن أشياء أخرى قادنا إليها هذا الحوار: ننطلق من الحدث... من مهرجان الموسيقى على اعتبار أن أبواب الترشح قد أغلقت يوم إجراء هذا الحوار .... طبعا ستكون من المشاركين في هذه التظاهرة؟ في البداية أود تصحيح معلومة بسيطة وهو أن نيّة المشاركة متوفّرة في هذه الدورة رقم 19.. صحيح أنني قدمت ترشحي بأكثر من أغنية ولكن تبقى مشاركتي الفعلية رهينة اختيارات لجنة الانتقاء . مادمت تحدثت عن لجنة الانتقاء.. ظهرت في السنوات الفائتة مؤاخذات عديدة على عملية انتقاء المشاريع المقترحة بل وصلت في بعض الأحيان إلى اتهامات ب"إقصاء" بعض الأعمال التي رأى أصحابها أنها تستحق أن تكون موجودة... كيف تعلّق على هذا الأمر وقد كنت في الدورة السابقة عضوا في لجنة المهرجان؟ شملت لجنة انتقاء الدورة الماضية أي الدورة 18 مجموعة من الأساتذة المشهود لهم بالخبرة والكفاءة اذكر منهم حمادي بن عثمان وزهير قوجة ومن المنخرطين في العملية الإبداعية من ذوي التجربة الميدانية الممتدة على مساحة لا يستهان بها أمثال مقداد السهيلي - حكيم بالقايد وعادل بندقة وقد اعتمدت اللجنة على مناهج تراوحت بين الانطباعية والأحكام العلمية المضبوطة سواء كان ذلك في قراراتها الخاصة بالمقطوعة الشعرية أو التآليف اللحنية والموسيقية... أنا لا أقبل بكلمة "إقصاء" لأن اللجنة كانت غاية في النزاهة وتجنّب الخلفيات ثم إننا لم يكن يتبادر إلى أذهاننا أن يكون انعقاد اللجنة هو إصدار أحكام حول المتقدمين بترشحاتهم ونحن بصريح العبارة قد اعتدنا مثل هذه ردود الأفعال وهو أمر طبيعي حينما يكون هذا الرد انفعاليا ولكن أن نسقط في حضيض المعاملات اللاحضارية واللاأخلاقية فهذا مهما تكون الأسباب أمر مرفوض وإنني أعتبر مجرد تقديمي لترشحي هو إقرار بقرارات اللجنة . بحكم التصاقك بالساحة الفنية تدرك كما يدرك الكثير منّا أن الأغنية التونسية تعيش أزمة.. ولو استشهدنا بسنة 2007 لرأينا وجود باهت - حتى لا نقول غياب- لأغنيتنا فما الجدوى إذن من إقامة مهرجان لأغنية غائبة؟ في العادة يمثل المهرجان تتويجا لعمل موسمي وتزكية لمجهود سنة في العمليات الإبداعية الموسيقية ولكن حتى ولو أقررنا بوجود أزمة فهذا لا يفضي بالضرورة إلى إلغاء هذا العرس الموسيقي بل بالعكس يجب أن تكون هذه المناسبة فرصة نكثّف فيها من الندوات واللقاءات ونجعل منها إطارا نبحث فيه معالم الأزمة - إن وجدت- ذلك أن الأزمة الحقيقية في نظري هي في طريقة تحديدنا للأزمة ذاتها. أنا أقول بأن التأهيل الذي شمل عديد القطاعات الاقتصادية في تونس لم يشمل بما فيه الكفاية المسألة الغنائية بل اقتصر على إعطاء بعض الحبوب المسكّنة.. قضيتنا الفنية في تونس لا تشي بأزمة إبداعية بل بأزمة تنظيمية لم يتهيّأ فيها المشهد الغنائي التونسي لتحديات الفضائيات -الموسيقية منها خاصة - الغازية من الشرق والخليج... نحن لنا إنتاج يفتقر إلى العملية التسويقية والتي أراها أساس التعاملات داخل السوق وهذه الحالة أشبّهها بأرض خصبة ينقصها الماء والسماد لتعطي أكلها وتضمن تسويق منتوجها. . والمهرجان في نهاية الأمر لا يمكن أن يتحمّل مسؤولية وضع له أسباب تاريخية وموضوعية راهنة ولا يمكن أن يكون في بعض من أركانه إلا انعكاسا لهذه الحالة. أنت بهذه الإجابة وكأنك تدافع عن مهرجان الموسيقى. فهل لأنك تؤمن بأنه من المكاسب التي لا بد من المحافظة عليها أم لأنه سبق لك أن ذقت طعم التتويج فيه.. ودعيت أيضا لتكون ضمن لجنته؟ شرف لكل مبدع أن يتوّج وشرف لكل منخرط في العملية الإبداعية أن يجازى بثقة الآخرين من خلال اختياره عضوا في لجنة ولكن دفاعي عن مهرجان الموسيقى ليس بسبب هذا أو ذاك بل لأن هذه التظاهرة هي فعلا مكسب وطني خالص وجب الحفاظ عليه فهو بصفة أو بأخرى قادر على حماية الأغنية التونسية وعلى توفير فرصة لعرض الأعمال التي لم تعد تجد لها مجالا داخل الذائقة الفنية الجديدة في ظل نظام "عاطفي " جديد. عندما يفتح ملف الأغنية التونسية أو بالأصح عندما يتم الحديث عن "أزمة" الأغنية التونسية فإن البعض يوجه أصابع الاتهام بالأساس إلى واضعي الكلمات... الذين لم يعد لديهم ما يقولون وما يكتبون... أنت كشاعر غنائي هل ترى أنك متهم فعلا؟ مثل هذه الأحكام سبق أن تردّدت على مسامعي وإنني أعتبرها مثيرة للسخرية والأسف لأن مطلقيها يترجمون آراءهم السطحية وعدم فهمهم لتفاصيل الأشياء المحرّكة لنسق الأزمة سريعا كان أم بطيئا ..نحن لدينا في تونس مجموعة من الأقلام المبدعة وقد أكدنا هذه الحقيقة في العديد من المهرجانات العربية فاسألوا عن المنصف المزغنّي في لبنان واسألوا عن آدم فتحي صحبة لطفي بوشناق واسألوا عن حاتم القيزاني الذي توّج في مهرجان الأغنية العربية بطرابلس سنة 2004 عن أغنية "حصار" وانتخب خلالها كأحسن شاعر غنائي عربي. أنت نفيت عن الكلمات تهمة التسبب في أزمة الأغنية المحلية لم يبق أمامنا سوى اللحن والصوت فهل يمكن اعتبارهما من مسببات هذا التراجع؟ أنا أعتبر حال المطربين والملحنين كحال الشعراء فكلّنا ضحايا تلك التحدّيات التي أفرزت حالة تدعو للخوف على مستقبل الأغنية التونسية التي هي دون الأغنية الشرقية والخليجية مع أن الشق الثاني هو بالأساس عمل تسويقي صناعي وليس إبداعا. وعندما تتردى الحالة إلى هذا المستوى فإن ذلك سيؤثر سلبا على نسق المبادرات الإبداعية فتشلّ حركة المبدع وكأنه يقول بينه وبين نفسه: "ما الفائدة من تقديم منتوج فني ليس له سوق بجميع مرافقها؟" "ولا كلمة" ... "الغربة".. "خلّوني"... "دلّولة" "... هي جزء من أغانيك التي طافت العالم العربي.. بصوت صابر الرباعي.. فلو لم تغنّ بصوته هل كانت ستشتهر لو قدّمت بصوت تونسي يقيم في تونس؟ طبعا لا لماذا؟ غناء صابر لكلماتي يعزز وجودها ووصولها هذا مؤكد وذلك ببساطة لأن صابر يحتل مكانة لدى المتلقي العربي وهي مكانة بنيت على امتداد سنوات أضف إلى ذلك فهمي العميق لتوجهات صابر وإيماننا المشترك بما يمكن أن يكون صالحا لتصدير أغنيتنا ولكن هذا لا يعني عجز صوت آخر عن الغناء من كلماتي داخل تونس ولكن سيلقى كلانا مساحة ضيقة أفرزها غياب الشركات المنتجة القادرة على تمرير الأغنية بإمكانياتها كما قلت آنفا التسويقية والتجارية الضخمة والرحبة. إننا نتحدث عن شركات إنتاج تملك فضائيات إلى جانب شركات الكاسيت و"السي دي" وعندما نتحدث عن المستوى المحلّي فإن الفارق المتسع سيبدو لنا جليا فشركاتنا التي تعدّ على أصابع اليد الواحدة مازالت لم تفكر في أغلبها في الإنتاج المحلي . طموحاتك الآن أصبحت تتجاوز الشركات المحلية خصوصا أنك تعاقدت مؤخرا مع إحدى الشركات الفنية الموسيقية الكبرى التي تكاد تسيطر سيطرة كلية على المشهد الغنائي العربي... سؤالي الآن: ما هو نوع وحجم الإنتاج الذي ستقدّمه مستقبلا؟ تعاملي مع صابر الرباعي لا أنكر أنه أفادني كثيرا - وأرجو أن تكون الفائدة قد شملته هو أيضا- وهو (أي التعامل) إلى جانب تعاملي مع الفنانة لطيفة قد مدّ أمامي الجسر إلى الضفة الأخرى وقد سبق لي أن تعاملت كذلك مع إيهاب توفيق وريهام عبد الحكيم ودينا حايك.. وفي هذا الخصوص أود الإشارة إلى مسألة لغة أو لهجة الكتابة فرغم أنني أعتبر اللهجة وسيلة فنية أساسية للتعبير عن الأحاسيس والأفكار أرى كذلك أن بحثي المتواصل في مسألة اللهجة الذي تجاوز ال20 سنة من التجربة الميدانية قد مكّنني من فهم نواميس وألاعيب اللهجة وعلى هذا الأساس فإنني لن اكتب إلا بلهجة فيها من التونسي إحساسي وأفكاري وفيها من انتمائي تقنيات لهجتنا وطرقها في رسم الصور وعمق الدلالات . أشتمّ من سياق جوابك السابق أن ما ستقدّمه لهذه الشركة أو بالأحرى للفنانين المنتمين لهذه الشركة لن يكون انتاجا تونسيا خالصا من حيث الكلمات... ألا ترى أن هذا الأمر سيورّطك لجهة الأغنية الشرقية ولأكون أكثر وضوحا ربّما ستكون أغانيك مع هذه الشركة استنساخا لما نسمعه من فنانيها؟ قدّمت للسوق العربية "ولا كلمة" .."دلولة".. " الغربة" و"الحومة العربي" بكتابة تونسية خالصة وورّطت المتلقي العربي في فهم لهجتنا رغم الادعاءات بتعقيداتها وصعوبتها وهو ما يطيح بالرأي القائل بأن لهجتنا تفتقر إلى العمق وغير قادرة على السمو الفكري والعاطفي وبالتالي يؤثث لعقلية جديدة تؤكد عمق الدلالات والإيقاع المعاصر للمعاني والصور الشعرية الجميلة التي تتوفر عليها اللهجة التونسية. اشتغالي باللهجة يشمل فيما يشمل تقريبها بكل مشمولاتها إلى المتلقي العربي مع التشبّث بخصوصياتها وإن اختلف تعاملي مع البنى اللغوية الخاصة باللهجة فإن ذلك لن يحجب انتمائي التونسي فيما يخص تراكماتي النفسية والعاطفية والفكرية التي سأحملها معي بالضرورة فهي المؤسس الأول لشخصيتي الفنية وما اللهجة إلا أداة تبليغية لهذه التراكمات. انفتاحك على الساحة العربية بعد رواج أغانيك.. ألم يعزّز "المطامع" لديك بالهجرة؟ هي مطامع مشروعة تسرّبت إليّ حينما أصبحت السوق التونسية تضيق عن أحلامي فالهجرة مطروحة، بل يمكن القول إن موسم 2008 هو موسم الهجرة إلى الشرق.. بيد أن تلك" المطامع" التي ذكرتها تعزّزت بدورها لدى الكثير من المطربين العرب وهذا شرف لكل شاعر تونسي. تلك "المطامع " شملت أسماء كفضل شاكر ...جورج وسوف ودينا حايك وحتى بعض الشعراء المصريين على غرار نادر عبدالله وأيضا منتجين مثل علي المولى ونصر محروس.. بصراحة ألم تتساءل عما تبحث كل تلك الأسماء في حاتم القيزاني؟ الزاد الذي سأحمله لا يقتصر على سلّة الشعر بل سيشمل كذلك موسيقانا وطبوعنا وإيقاعاتنا الثرية جدا والتي ستحدث الاختلاف والتميّز وهو ما سأركّز عليه في تعاملي حتى أكون استثنائيا ومتميزا وهو طموح كل مبدع يريد التقدّم في مجاله ..معنى ذلك أن إرثي الشعري والموسيقي التونسي هو مركبي المضمون الوصول إلى شاطئ الانتشار. روّجت في وقت من الأوقات إلى مشروع إحداث نقابة للموسيقيين التونسيين وسمعنا أحاديث طويلة عريضة عن هذا المكسب .... ثم حل الصمت الرهيب؟ مازلت متحمّسا ومدافعا عن إرساء هذا الهيكل الذي أردنا له أن يكون إطارا قانونيا وحضاريا نطرح فيه مسألة الأغنية وتتوضّح فيه حقوقنا وواجباتنا وأذكر أنني أشرت إلى أن هذا المشروع يتنزّل في إطار سعينا إلى حماية حقوق المبدع داخل ساحة ضبابية الأفق وقد تأكدت لدينا هذه الضرورة خاصة عندما وقع انتخاب تونس عضوا في هيئة دولية لحقوق الإنسان التي تتنزّل فيها حقوق المبدع فكيف لا يكون لهذا المجال الثقافي "الخطير" والحسّاس الذي يخترق فيه الإنتاج أبواب البيوت وأذهان الناس هيكل قانوني تتوضّح فيه الرؤى ويعرف كل من فيه ماله وما عليه وهو ليس هيكلا مواجها لسلطة الإشراف بل إنه مدعّم ومكمّل لمجهوداتها في الرقي بالمبدع والإبداع . لم تجب عن سبب" الصمت الرهيب"؟ يبدو أننا وقفنا في بداية الطريق ولا يعود ذلك في نظري إلى انتفاء شعلة الحماس لدى المبادرين الأولين لتأسيس هذه النقابة ولكن يبدو أن بعض المتحرّجين من طرح مشاكل ومشاغل الأغنية والمنتفعين من " أزمتها" قد عملوا كل ما في وسعهم من أجل تعطيل مسيرة هذا المشروع الحضاري الذي لا يمكن إلا أن يكون نافعا لمستقبل أغنيتنا.