- ذات ربيع بائس من سنة 2003 طلع علينا السيد الأمريكي في مستهل حملته العسكرية على أرض العراق بنظرية مبتكرة في شن الحروب هي نظرية «الصدمة والترويع» التي تقوم بالأساس على مباغتة العدو بالقصف المكثف واستعمال أقصى وسائل القوة التدميرية بغرض شل قدرة هذا العدو على استيعاب الضربة وبالتالي القيام برد الفعل، ما يعني الرغبة في ضمان حسم المعركة منذ الساعات الأولى وعدم ترك المجال لأية مفاجآت محتملة قد تربك الحسابات الإستراتيجية للطرف المهاجم . لكن، وبعيدا عن هذا المنطق العسكري الخشن، يبدو أن نظرية الصدمة والترويع هذه قد لقيت هوى في نفوس القائمين على شؤون الحكم في بلادنا الذين قادتهم قراءتهم الخاصة للواقع الحالي المتسم بالتعثر والارتباك إلى التوصل لنتيجة شبه قاطعة وهي أن السبب الأساسي الذي أدى إلى ذلك الوضع المتوتر هو الإعلام، وبالتالي كان من الضروري تحريك كافة الطاقات الممكنة لشن تلك الحملة «الصادمة والمروعة» بقصد ترويض وسائل الإعلام وكبح جماحها حتى تكون الذراع اليمنى للسلطة الجديدة بعد أن فشلت في إيجاد أذرع اقتصادية واجتماعية مقنعة. وما شجعها على ذلك هو ظهور بوادر فعلية لتملق بعض الإعلاميين «المخضرمين» للحزب الحاكم الجديد، ومغازلة هذا الأخير لبعض الأصوات الإعلامية التي كانت بالأمس القريب تسبّح بحمد الرئيس السابق وسيدة تونس الأولى الفاضلة... واستمرت اليوم في أداء ذلك الدور المخجل بكل صفاقة مع بعض «التحيين» . ما أشبه الليلة بالبارحة.. نفس الظواهر الطفيلية التي تكونت في السابق حول حزب التجمع هي اليوم بصدد التشكل حول السلطة الجديدة.. يراد لنا أن نشهد من جديد كرنفالا من البهلوانيات وإعادة إحياء لرميم اللغة الخشبية، وربما نستعيد معها «العناية الموصولة» و»السياسة الحكيمة» و»التوجيهات الرشيدة»...إلخ حتى تكتمل معالم الصورة الوردية التي سوف تبهر المستثمر الأجنبي فيهرول قادما إلينا من وراء البحار حاملا على ظهره كنوز سليمان بعد أن نكون قد سترنا عوراتنا. هذا الوضع المشوه هو نتيجة طبيعية للتعامل الانتهازي مع فكرة الديمقراطية؛ فأنا ديمقراطي بالقدر الذي يتيح لي الوصول إلى كرسي الحكم، وكل ما عدا ذلك من مبادئ وضوابط مجرد تفاصيل لا تعني لي أي شيء.. هذه النظرة «المعاقة» للديمقراطية تتغافل عن آلية هامة ومحورية من آليات السلوك الديمقراطي السوي وهي آلية النقد، ومن طبيعة الأشياء أن تكون السلطة الحاكمة هي الجهة الأولى المعرضة للنقد بما أنها تملك كافة وسائل القوة والضبط بين يديها، وبالتالي تكون محاسبتها عن كيفية استعمال تلك الوسائل محاسبة صارمة لا مكان فيها للمحاباة أو الإطراء الأجوف، والإعلام هو في مقدمة الأطراف المنوط بها القيام بهذا الدور الحيوي. ربما يبدو مقبولا هنا أن تكون السلطة غير مستعدة نفسيا للوقوف في هذا الموضع الصعب والمحرج بما أن جميع الأطراف اليوم هي بصدد تلقي دروسها الأولية في محو الأمية السياسية، ولكن من غير المقبول إطلاقا أن تختزل نظرتها إلى الإعلام في مجرد التخوين والشيطنة والاتهام بالعمالة والتواطؤ. لأنه في الوقت الذي كان فيه الإعلاميون يرزحون طيلة العهد البائد تحت وطأة الرقابة والصنصرة والضغوط المادية والأدبية وكان عدد هام منهم يعاني الأمرين في سبيل مقاومة ذلك الوضع المتعفن، في ذلك الوقت كان معظم الذين يقودون الحملة الحالية ضد الإعلام بعيدين جدا عن أرض المعركة وكانوا وادعين في منافي شمس الخليج وصقيع اوروبا. من أطرف ما استمعت إليه هذه الأيام حديث لمستشار رئيس الحكومة المؤقتة المكلف بالإعلام والإتصال الذي انبرى في أحد الحوارات الإذاعية يكيل الاتهامات لوسائل الإعلام ويتحدث بلهجة خطابية بارعة عن مؤامرات تستهدف إسقاط الحكومة وعن أطراف سياسية وإعلامية تسعى إلى تشويه صورة تونس في الخارج وإلى منع رؤوس الأموال الأجنبية من الإستثمار في بلادنا... للحظة خلت أني أستمع إلى المتحدث باسم حكومة بن علي الذي كان يستعمل نفس الأسلوب وبنفس العبارات تقريبا بأننا بصدد نحت دكتاتورية جديدة بنفس المفردات السياسية مع اختلاف بسيط في العباءة الإيديولوجية, هل هذه حقا حكومة ثورة؟ هل هذه هي السلطة التي ستأتي إلينا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية؟.. أكاد أصدق أحاديث السحر والدجل والشعوذة.. ربما ترك بن علي لنا قبل أن يلوذ بالفرار بعض التعاويذ والرقى التي تجعل كل من يستلم هذه السلطة يتحدث بنفس الأسلوب ويخطو نفس خطوات سلفه، وكأن الجماعة «قاريين على فرد مدب». وإني لأكاد أسمع صدى كلمات السيد المسيح يتردد في جنبات خطاب السلطة؛ «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والحزانى وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم»، فما على أهل الفكر والرأي إذن إلا أن يحزموا أمتعتهم ويشدوا الرحال ليولوا وجوههم شطر الجنة الموعودة، ومن يتخلف عن أداء البيعة فله الويل والثبور قبل نحو سبعين عاما كان «غوبلز» عرّاب البروباغندا الهتلرية يقول؛ كلما استمعت إلى كلمة مثقف تحسست مسدسي، واليوم يبدو أن حكام تونس الجدد كلما استمعوا إلى كلمة إعلامي تفقدوا علبة حبوب مضاد الحموضة. هم يعلمون جيدا أكثر من غيرهم أنه من المستحيل اليوم بعد الثورة وبعد التجارب المريرة تحت قهر الدكتاتورية أن تنجح أية سلطة في تطويع الإعلام، ومهما استأسدت عناصر قوة هذه السلطة فلن تقوى مطلقا على الانقضاض على الكلمة الحرة، ومن السذاجة الاعتقاد بأن التفويض الانتخابي قد يتيح لأصحابه الذهاب بهذا التفويض إلى أقصى مدى بتدجين المرافق العمومية داخل القوالب الفولاذية التي أعدتها السلطة مسبقا في مصانع أدعياء الفقه السياسي والتنظير السلطاني. قد يبدو الأمر مجرد لعبة لي ذراع بين سلطة تسعى إلى بسط هيمنتها على القطاعات المدنية الحيوية وإعلام متنطع يحاول افتكاك حريته التي حرم منها لعقود، إلا أن المسألة أعمق وأخطر من كل هذا وترقى إلى مستوى المعركة المصيرية التي على ضوئها سيتقرر مصير سائر المعارك الأخرى ومصير الثورة ككل. فما على هذه السلطة إذن إلا أن تقنع هي باللعب في المربع الذي تحدده لها حرية الفكر والتعبير والإعلام، وليس لديها من خيار سوى تعديل ساعتها على زمن الحرية بكل أبعادها وآفاقها الرحبة التي حدودها السماء. فلا معنى لأن ننادي بالقطع مع الإعلام البنفسجي لنحل محله إعلاما أزرق.