بقلم: بوجمعة الرميلي بكل صراحة لا تعجبنا كثيرا تصريحات بعض القيادات الحزبية التي تبشرنا بانتصاراتها الانتخابية الآتية لا ريب فيها بينما الشعب لا ينتظر إلا انتصارا من نوع واحد ذلك الذي يمكن تونس من التغلب على مخاوفها وحيرتها وترددها حتى تنجز خطوات جديدة على هذا الدرب الصعب والشاق لكنه الطريق الذي لا خيار عنه للعبور نحو نور الحرية ونخوة الكرامة. وبكل موضوعية ودون السقوط في التفاؤل المفرط فان حصيلة المؤشرات النوعية والأساسية التي نستقيها من قراءتنا للمسيرة منذ 14 جانفي إلى حد هذا اليوم تفيد أن تونس تجاوزت نقطة اللاعودة على طريق البناء الديمقراطي وهي النتيجة التي لم تكن مضمونة مسبقا والتي هي الآن بصدد مفاجأة الجميع بما فيها الأطراف التي ظهرت وكأنها تحتل مواقع متقدمة في معركة الانتقال الديمقراطي على اثر الثورة التي أطاحت بالهرم الأعلى للسلطة. و إذا قلنا أننا قد اجتزنا نقطة اللاعودة فلا يعني ذلك أن المعركة قد انتهت وإنما نقصد بذلك أن حسمها سوف يتم من خلال بناء الجديد أكثر منه من التركيز على القديم وهذا لا يعني كذلك غض الطرف عن كل ما من شانه أن يتسرب من أمراض نسعى إلى التخلص منها نهائيا وإنما نقصد أن أفضل وأصح تمش لتحقيق الهدف الديمقراطي يتمثل أساسا في 'صنع أكثر ما يمكن من واقع جديد' يسمح تكثيفه وتعميقه بتنسيب القديم إلى أن نصل إلى مرحلة التجاوز النوعي لذلك القديم بالتغلب تدريجيا على الآليات التي كانت تعيد إنتاجه. والسر في تجلي البوادر الهامة لنجاح المسيرة التونسية يتمثل في أن الثورة توافقت مع حاجة ملحة ومطلب حقيقي للتحديث انتظر المجتمع تلبيتها مدة نصف قرن لكنها بقيت معلقة جراء التخلف السياسي للحكم السابق في معالجته للمسالة الديمقراطية مما جعله يعجز عن انجاز الارتقاء الحضاري المطلوب حتى يصل إلى مستوى الانتظار الشعبي. وبما أن الثورة تستجيب إلى مطلب مجتمعي عميق - وان كان شبه مدفون - فان الشعب قد اظهر - على العموم وبقطع النظر عن كل مظاهر الانفلات التي من المستحيل أن تغيب عن مثل هذه الظروف من الانقلاب الكلي للمنظومات القائمة فان الشعب إذن قد اظهر نضجا ورشدا تجاوزا في اغلب الأحيان المستوى الذي ظهرت عليه كثير من النخب وهو بمثابة الدرس البليغ في ما يخص جملة من المنظومات الفكرية والسياسية والعقائدية التي تبدو في الظاهر وكأنها على مستوى راق من التركيب والتعقيد بينما هي في جورها فارغة جوفاء بالمقارنة مع الحس السليم الشعبي. ولو نسلم بان المسار في مجمله سليم وأن البلاد عموما قد وجدت طريقها الجديدة وان صفحة كاملة من تاريخنا المعاصر نحن بصدد طيها فان النظرة إلى المشاوير القادمة يمكن أن تصاغ بشكل يختلف عما يبدو حاليا وكأنه يطغي على كثير من الحوارات والمواقف التي يروج لها الإعلام ويتلقاها الرأي العام. ذلك أن ما يطفو اليوم على سطح الجدل القائم يميل إلى الحيرة أكثر منه إلى الثقة وإلى الشك أكثر منه إلى اليقين وإلا فكيف نفسر أن البلاد كلها تقوم وتقعد لانجاز انتخابات مجلس تأسيسي سيكون من مزاياه الرائدة تثبيت - لأول مرة في تاريخ تونس القديم والجديد - شرعية حكم ديمقراطية بينما جوهر الحوار القائم يتمثل في التساؤل أولا حول كيفية التقصير أكثر ما يمكن في مدة وجود هذا المجلس وثانيا حول كيفية التخفيض في سقف صلاحياته إلى أدنى حد ممكن أي 'صياغة الدستور' وهو أمر كان بالإمكان ايلاؤه إلى مجرد لجنة فنية دون تكبد مشقة انتخابات مضنية ومكلفة ومليئة بالتعقيدات لأنها أول انتخابات ديمقراطية في تاريخ تونس مثلنا في ذلك كمثل من يصنع طائرة متطورة ومكلفة فقط لكي ينتقل بها إلى القرية المجاورة ثم يتخلص منها مباشرة بعد ذلك. ومن غرائب الأمور أن الذريعة التي تقدم لتبرير هذا الموقف هو 'التعجيل بإيجاد مؤسسات مستقرة' وكأنما الطعن المسبق في المجلس التأسيسي الشرعي وما سينبثق عنه من هياكل ومؤسسات تنفيذية شرعية وما سيصدر عنه من تشريعات لا يمثل ضربا من ضروب الطعن في الاستقرار بتكثيف ظاهرة نقاط الاستفهام حول مصير تونس وما ينجر عن ذلك من تشكيك داخلي وخارجي ومن إرجاء لحل المشاكل الحادة التي لم تعد تقبل أي تأجيل. وربما هناك خلفية من جملة كثير من الخلفيات - لكل هذه المضاربات لم يفصح عنها بالقدر المطلوب ترتبط بجدلية 'التواصل والقطيعة' فيما يتعلق مثلا بمصير الحكومة الحالية وما يمكن أن ترمز إليه من تواصل داخل الإطار الثوري طبعا - وبقرارات المجلس التأسيسي فيما يخص تسمية الحكومة الجديدة وما يمكن أن يرمز إليه من قطيعة. وهي تساؤلات مغلوطة من الأساس لأن من الصعوبات الكبرى التي أثرت على أداء الحكومة الحالية رغم الانجازات التي قامت بها في الظروف الخاصة الحالية تتمثل في فقدانها للشرعية وبالتالي فالسؤال الأساسي يتعلق أولا بالشرعية أي انه مهما كانت الحكومة المقبلة فيجب أولا أن تتمتع بالشرعية الكافية لاتخاذ القرارات اللازمة وتنفيذها وكذلك وبالخصوص أن تكون مسؤولة أمام المجلس الوطني عن أدائها وهو العنصر المفقود حاليا وفي نهاية المطاف إذا كان لا بد أن تتجسد 'القطيعة' الديمقراطية عن طريق تكريس المسؤولية الكاملة التي تبقى للمجلس لتسمية الحكومة حسب المعايير التي تتماشى مع طبيعة المرحلة مع مراعاة كل الحيثيات التي تراعي المصلحة الوطنية وتوازناتها الضرورية فنعم القطيعة التي ستكرس بالفعل أننا قد انتقلنا من حال إلى حال وخرجنا من طور التلفيق إلى طور الجديد بكل ما للكلمة من معنى ومن أبعاد. أما فيما يتعلق بحظوظ إيجاد توافق وطني أدنى يسمح بصنع القرار الضروري وتفادي التلكؤات التي قد تعطل المسيرة فهذا ما سيكون في قلب الانتخابات كمقياس أساسي للفرز بين مختلف الاطروحات والمقترحات والتمييز بين من يعتبر أن المرحلة وطنية بالأساس وبين من سيعتبرها سوقا لبيع السلعة الحزبية بالمعنى الضيق للكلمة أي بمعزل عن الرهانات الوطنية.