لا حديث هذه الأيام في الساحة السياسية وفي المنابر الإعلامية إلا عن المؤامرات وأبطالها. أطراف تلوح بوجود مؤامرة وأطراف ترد بأن من يتحدثون عن المؤامرة هم بدورهم يتآمرون لإخفاء فشلهم. وبين من يؤكدون وجود المؤامرة ومن ينفونها تبدو المؤامرة الحقيقية ضد الشعب والثورة. لتضيع المطالب الشرعية والأهداف والاستحقاقات بين ثنايا التآمر والمتآمرين وحديث المؤامرات. اليوم وفي ظل لخبطة الأوراق وتناقض التصريحات لا يدعى أحد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة بوجود مؤامرة أم لا. فحسابات الساسة والسياسيين في هذه المرحلة الانتقالية -وأعينهم وأفئدتهم معلقة بالانتخابات المقبلة- تفتح الباب على كل الاحتمالات والغاية تبرر الوسيلة لدى هذا الطرف أو ذاك. غير أن الحقيقة المطلقة التي يمتلكها الجميع ويتفق حولها الجميع- بمن فيهم فرقاء السياسة- مفادها أن ما يحصل اليوم هو البحث عن «ماورائيات» المؤامرات على حساب مطالب الشعب المستعجلة وعلى حساب استحقاقات الثورة المعلومة وفي مقدمتها حق الشهداء والمحاسبة وكشف ملفات الفساد والفاسدين. وقطع الطريق أمام متآمري الأمس زمن المخلوع الذين تحولوا اليوم و بقدرة قادر إلى حماة الحمى والدين والعين الساهرة على تحقيق أهداف الثورة. إن الأجدى قبل البحث عن المتآمرين الجدد في مؤامرة إسقاط الحكومة، هو البحث عن إجابة لأسئلة عديدة تخامر الأذهان وتقض مضجع التونسيين ولا تجدها اليوم على رأس أولويات السياسيين: فلماذا لا يتحدث أحد وبالحماسة ذاتها سواء من في الحكومة أو خارجها ،عن المتآمرين الحقيقيين الذين يماطلون في حسم ملف القتلة والمورطين في قضايا الفساد؟ ولماذا لا يجند «الإعلام الثوري» وجوهه الثورية لفتح فضاءاتهم الحوارية وصفحات جرائدهم لمتابعة موضوع المحاسبة والتشغيل والشروع في التنمية الحقيقية، والقيام بحملات إعلامية موجهة للضغط باتجاه سرعة الحسم في هذه الملفات تماما كتلك الحملات التي نراها اليوم في بعض القضايا الجانبية والمفتعلة ؟ لماذا لا يتجند الجميع لفك لغز «مؤامرة» ارتفاع الأسعار التي تبدو عصية على كل محاولات كبح جماحها.و تستهدف جيب المواطن و«الزوالي» وكأن الهدف من ورائها أن يندم هؤلاء على مطالبتهم بالتشغيل والتنمية والكرامة؟ ولماذا يظل التآمر سيد الموقف حول موضوع كشف القائمات السوداء في القطاعات الحساسة كالقضاء والإعلام.والكل يعلم بوجود من يتآمرون حتى لا تخرج هذه الحقائق المرة من الأروقة والدهاليز وتطرح عارية أمام الرأى العام لا من أجل التشفي لكن من أجل أن يتحمل كل مسؤوليته ولا يطالعنا من تآمروا على الشعب لعقود وقبضوا الثمن،بعذرية جديدة ووقاحة مستفزة ؟ لماذا لا يصطف الجميع وراء كشف المتآمرين المعروفين الذين قاموا في العهد البائد بأدوار معلومة في مؤامرات محبوكة داخل العديد من المنظمات الوطنية في اتحاد الشغل وفي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وداخل نقابة الصحافيين.. لضرب وحدة الصفوف وبث الفتن والتفرقة. فكشف هؤلاء يضع حدا لتآمرهم ويجعلهم عبرة لكل من يحاول مستقبلا التحالف مع السلطة لتحقيق مآرب سلطوية ولخدمة مصالح شخصية ؟ لماذا ؟...ولماذا؟...ولماذا؟ على الجميع اليوم أن يعوا أن ضحايا المؤامرات الحقيقية التي تحاك اليوم ليست الحكومة الحالية ولا معارضيها بل هو هذا الوطن الذي يئن ولم تندمل جراحه المفتوحة وشهداؤه الذين قتلوا مرة لأنهم آمنوا بأن منطق التغيير يحتم أن تسيل دماؤهم الزكية وتروي هذه الأرض الطيبة وهم اليوم يقتلون ألف مرة ومرة وهم يرون تضحياتهم تضيع بين حسابات السياسيين الذين عليهم أن يتذكروا جيدا أنهم سينعتون جميعا بالمتآمرين وسيدوّن التاريخ أبشع وأخجل مؤامراتهم إذا ما ضاعت الثورة-أو ما بقي منها- بسببهم.