بقلم : محجوب لطفي بلهادي التشغيل و ما أدراك ما التشغيل ! قطعا يشكّل هذا الملف أحد أهم استحقاقات الثورة علي الإطلاق وهاجسا وطنيا بامتياز فتعدّدت المقاربات والوصفات الواحدة تلو الأخرى، أهمها التحضير لعقد مؤتمر وطني للتشغيل في موفي الشهر القادم وما أحاط بهذه المبادرة من تصريحات مثيرة للجدل حول إمكانية اعتماد مقاربة - التمييز الايجابي- في معالجة برامج التشغيل عموما والإلتحاق بالوظيفة العمومية على وجه الخصوص. لا يخفي على احد أن ظاهرة المؤتمرات في مجالنا الوطني والعربي لا تحظى بالثقة باعتبار أنها دوما تستحضر في اللاوعي الجماعي سلسلة من الإحباطات والممارسات السياسوية المقيتة التي يمكن أن تفهم خطأ اليوم على إنها إعادة إنتاج لنفس المنظومة الهدف منها التموقع الجيّد وتسجيل بعض النقاط في نطاق الاستعداد المبكر للانتخابات القادمة. ففي تعريفها العام تُعقد المؤتمرات لِمأسسة الملفّات الكبرى من خلال صياغة تصوّرات واستراتيجيات تُسندها آليّات متابعة وتقييم وتثمين متوسّطة وبعيدة المدى، في حين أنّ نزيف البطالة في بلادنا بلغ مستويات قياسية تستوجب تنظيم ورشات عمل كبري دورية في جميع الجهات محورها الأساسي : الممكن والمستعجل في مواجهة البطالة، ورشات مدعوة حصرا لآستنباط مقاربات تشغيلية عملية، سريعة التحقّق في انتظار إجراء إصلاحات هيكلية عميقة في المنظور المتوسط. كما أن التوجّه نحو عقد مؤتمر وطني للتشغيل يليه مؤتمر ثان يعنى بالتكوين المهني في نهاية شهر ماي لا يمكن أن يُقرأ إلا على انه فصل قيصري غير مبرر لطرفي المعادلة، كيف ؟ دون الوقوع في المتاهة المفرغة الشهيرة حول أسبقية الدجاجة أم البيضة... من البديهي أن التكوين المهني والتشغيل هما وجهان لعملة واحدة تتفاعل ضمن منظومة شاملة ومعقدة تتحكّم فيها أساسا توجّهات تنموية كبرى و مناخ استثماري جد متغيّر. فكيف تحقيق ما تضمّنته لائحة الأهداف المعلنة والرسمية للمؤتمر الوطني للتشغيل من الوقوف على واقع التشغيل و البطالة و تقييم نتائج برامجه وآليات العمل المستقل و تشخيص المعوقات و البدائل لإرساء سياسة تشغيل تستجيب لطموحات الشباب وتطلعات الجهات الخ... دون الإجابة عن السؤال المحوري كيف يتسنّى تحقيق ذلك دون القيام بتشخيص وتقييم مدقّق لمستويات التأهيل المهني والعلمي لمواردنا البشرية من منظور مدى إستجابتها لمتطلّبات السوق المحلية والعالمية بعبارة أخرى كيف يتم كل ذلك دون المرور عبر بوّابة التكوين المهني؟ في مقال بحثي صحفي سابق كنت قد اقترحت بشكل مفصل تمش بيداغوجي جديد، مقاربة مستحدثة لبرامج التشغيل في شكل خارطة طريق تؤمّن عملية التأهيل والتشغيل من مخاطر العمالة الهشّة بآعتماد نظام المكافأة و الزجر bonus / malus. في نفس السياق، الجميع يدرك تماما انه من العبثية التّمادي في صرف منحة أمل وفق التصوّر السابق لكونه يغذي ذهنية التواكل لدى طالبي الشغل ويمثّل محنة وألما لميزانية الدولة المخصصة للتشغيل إلا انه بالإمكان تغيير هذه المنظومة من الداخل دون التخلي عنها والارتقاء بها من منحة بطالة مقنّعة إلى آلية من الحوافز المنتجة، من بين السيناريوهات يمكن الاستمرار في صرف المنحة شريطة متابعة دورات تأهيلية لتيسيير عملية الاندماج في سوق الشغل، إلاّ أنه يقتضي التنبيه في هذا الصدد أنّه من غير المجدي أن نفرض على حاملي الشهادات العليا اختصاصات تستوجب مهارات يدوية لا يمكن استيعابها إلا في سنّ مبكرة بعنوان ضرورة التأقلم السريع و الاستجابة القسرية لمتغيرات السوق، لكن بالمقابل ومن المتاح على سبيل الذكر لا الحصر أن نقدم على عجل لحاملي الشهادات العليا في العلوم الإنسانية - باعتبارها الفئة الأكثر استهدافا بالبطالة - حزما تأهيلية متنوعة، متكاملة وآنسيابية مع النسيج الاقتصادي الخدمي لبلادنا كالتكوين في سياحة المؤتمرات والسياحة الثقافية والبيئية وغيرها من الاختصاصات الواعدة في مجالات تكنولوجيا المعلومات والفنون الجميلة... كما يمكن التفكير أيضا - في نطاق السّيناريوهات الممكنة - في تحويل جزء من الموارد المخصّصة لمنحة أمل لفائدة الباعثين الجدد من أصحاب الحرف والأفكار ذات القيمة المضافة العالية بالشراكة مع المؤسسات المالية والبنكية. إلاّ أنه يبقى من غير المقبول اليوم وتحت عناوين فضفاضة أن تعتمد مقاربة التمييز الايجابي بشكل مسقط ومغلوط على واقعنا المعاش من خلال التلميح بوضع مقاييس جديدة للالتحاق بالوظيفة العمومية على قاعدة المحاصصة بين الجهات ! ففي الدول المتقدمة التي استحدثت هذا المفهوم إستخدمته حصرا في الرفع من نسق الاستثمارات في البنية الأساسية والمنشآت التعليمية والصحية وغيرها لفائدة المناطق ذات الأولوية والفئات الأكثر إحتياجا إلا أنها في ذات الوقت كانت نفس هذه الدول حريصة كل الحرص على احترام القواعد الحقوقية الكونية الداعية إلى تكافؤ الفرص في العمل للجميع دون تمييز. فان كان يُفهم من ثورة 14 جانفي أنها ثورة المحيط على المركز بآمتياز فانه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تتحوّل إلى سياق انتقالي يقنّن نظام محاصصة جهوي قد يزجّ بنا في دائرة المجهول.