بقلم: مصطفى البعزاوي منذ قيام دولة إسرائيل لم يفهم المواطن العربي سر تواطؤ واستقالة الطبقة السياسية من ملف « فلسطين» إلا مؤخرا حينما تمردت المعلومة وأصبحت كونية و منفلتة. لكن انكشاف الخيانات و الصفقات المشبوهة جاء للأسف متأخرا, لأن المواطن العربي اكتشف بدوره أنه بحاجة لمن يحرره. فانتبه لهمومه و ترك فلسطين مؤقتا وحيدة... وهي الآن تقريبا وحيدة لأن كل فول لاهي في نوارو. إن فلسطين التي ضاعت من العرب و المسلمين لم تضع منهم نتيجة لسلسلة لا تنتهي من الهزائم العسكرية أمام دولة إسرائيل. فلسطين ضاعت لأن رسالة الإسلام هي التي ضاعت. فهذه الأرض هي الشاهد التاريخي الحي و الوحيد على صدق دعوات التوحيد و صدق الأنبياء و المرسلين. لقد ضاعت وكان يجب أن تضيع لأنها البرهان المادي الحي على وحدة الإنسان والرسالات ودليل على ارتباط هذه السلسلة من الأنبياء بعضهم ببعض بحلقة وجودية واحدة, وهي التوحيد. لو كان هذا الإنسان يريد أن يفهم أن أصله و تاريخه و مصيره واحد لما احتاج إلى دليل أكثر إثباتا من وجود مدينة القدس ذاتها. اليهود يعتبرونها أرضا مقدسة لارتباطها بموسى و بالتوراة و النصارى يعتبرونها مقدسة لارتباطها بعيسى وبالإنجيل والمسلمون يعتبرونها مقدسة لارتباطها بما سبق و بالإسراء و المعراج. فما سر الاقتتال و نفي الآخر؟ و لماذا هذا التناحر و التحارب و الصراع بين أتباع هذه الرسالات و هم يؤمنون بنفس الجوهر و على نفس المكان. القدس هي المدينة الوحيدة في العالم التي اجتمعت فيها كل رسالات السماء بالاستحقاق. كل الرسالات, يرجع إليها ,بالقوة و الأصالة, مكان ما في المدينة لا بالتوارث و الاحتلال. رائحة الدعوات السماوية التي تعبق بها طرق القدس و حاراتها دليل على حقيقة علاقة الأرض بالسماء ودليل أن الدين ليس تراثا و ثقافة بل حقيقة تاريخية توثقها و تشهد عليها الآثار و الأمكنة و العناوين في هذه المدينة المقدسة. و حين توحد القدس الإنسان و الرسل و الرسالات يقسم البشر مناطق النفوذ بينهم حتى يدمروا ما جاء من أجله كل الأنبياء و المرسلين. كان يجب على فلسطين أن تضيع عندما أحدث بنو إسرائيل الثغرة في تاريخ البشرية من خلال الرجوع إلى شعب الله المختار والأرض الموعودة و عندما رجع النصارى إلى عيسى المخلص وعندما تقوقع المسلمون داخل مكة و المدينة. كان يجب على فلسطين أن تضيع حتى يضيع هذا التاريخ الإنساني الواحد و الموحد الذي نقرأه في القصص القرآني بجهل كبير. كان يجب على فلسطين أن تضيع عندما تخلى المسلمون عن رسالتهم الإنسانية و أصبحوا دينا من الأديان خلافا لما جاء به نبيهم و كتابهم. لم ترد مفردة «الأديان» في نص القرآن الكريم بل جاءت مفردة «الرسالات» دالة على تراكم تاريخي و معرفي لاكتمال بناء الدين, فالدين عند الله الإسلام, وهو دين واحد لكل البشر. القرآن الكريم يسمي «المؤمنين» كل من آمن بالله دون تخصيص ذلك للمؤمنين من أتباع النبي محمد. وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) الحديد. فالقرآن هو كتاب كل الرسالات و المرسلين و الشعوب, وفلسطين و مدينة القدس بالذات هي شاهد على وحدة المكان وحقيقة التواجد التاريخي. إنها متحف حي للرسالات. إن سعي الكيان الصهيوني المحموم لتهويد مدينة القدس وتكثيف عمليات الاستيطان في الأرض الفلسطينية هو محاولة للرجوع القسري إلى حلقة وحيدة من حلقات هذا التاريخ و الاقتصار عليها لنفي الآخر بالقوة و العنف وطمس المعالم التاريخية والثقافية و المعمارية المتعمد لآثار هذا الارتباط و الترابط الإنساني. الاحتلال و الحروب وإراقة الدماء هو لتعميق هوة التمايز وتأصيل وهم اختصاص كل رسالة بنوع من الناس دون غيرهم لإدامة منطق الصراع كمنهج للوجود البشري. فتبقى اليهودية دين شعب الله المختار وتبقى المسيحية دين الغرب الاستعماري و يبقى الإسلام دين العرب أو في أحسن الحالات دين المسلمين المتخلفين. لذلك فمشروع الدولة اليهودية كما يسوق له الصهاينة و الأمريكان هو قطع لمفاصل التواصل البشري و ضرب لثقافة التقارب و التعايش و المحبة بين بني الإنسان. إنها أخطر الخلايا السرطانية لمرض الأنا البشري, الفردي و الجماعي, القائم على الفرز و التعالي و المنتج بالضرورة للعلاقات الطبقية بين الناس و المجتمعات. الصراع في الحقيقة ليس على المقدسات ولا على الرسالات إنما تستعمل المقدسات, للأسف, لأغراض الاستعلاء و الاستكبار و الإفساد في الأرض. الخطر الحقيقي لدولة إسرائيل هو تحويل حقيقة الترابط الديني بين كل الناس والتقارب بين الشعوب إلى «صراع أديان» و«صدام حضارات» وهي أخطر القنابل التي تلقى على الوعي و العقل البشريين. جريمة قيام دولة إسرائيل فضلا عن كونها جريمة احتلال ضد الفلسطينيين, أصحاب الأرض, هي جريمة ضد الإنسانية لأنها مشروع للدمار و إدامة الصراع و قطع قسري ودموي للترابط التاريخي بين كل أبناء البشر. إن ضياع القدس هو كي للوعي العربي حتى يستفيق من خطابه الإقصائي و المتعالي الكاذب على البشرية و هو يتبجح «بدينه الإسلامي و نبيه محمد». هل أفاد نفسه قبل أن يزايد على غيره من الشعوب بامتلاكه الحقيقة واقترابه من رحمة الله؟ هل في واقع العرب و المسلمين ما يوحي برحمة ربهم عليهم؟ فالعرب خاصة و المسلمون عامة- إلا ما رحم ربك - ليسوا في وضع يسمح لهم الإدعاء بامتلاك الخلاص وإعطاء دروس الهداية لأحد. فهم أسوأ مثال على وجه البسيطة في كل المجالات يفضحهم في ذلك واقعهم المتردي و المتخلف وأنظمة الشؤم المستبدة والمستعملة للدين بالخصوص في إدامة قرفها والتبجح بجهلها و صلافتها. هل رحمة الله التي يتبجحون بها و يتنافخون بها كذبا هي التي تدفعهم للنفير الذي يتراقصون به كالحمقى في كل المحافل الدولية للإطاحة بالنظام السوري في الوقت الذي كانت طائرات العدو الصهيوني تدك قطاع غزة المحاصر و تحصد عشرات القتلى العزل والأبرياء وهو على مرمى حجر من الحدود السورية؟ هل دين محمد هو من يلهمهم بذل المال و السلاح لإراقة الدماء في سوريا و يديرون أدبارهم لطائرات بني إسرائيل تمطر ليل غزة المظلم بالقنابل والدمار. إن فلسطين تعود حين يصبح المسلمون مسلمين قادرين على إقامة العدل بينهم و بين كل الناس و قادرين على حماية أنفسهم وأموالهم و أعراضهم من أنفسهم أولا, و قادرين على حماية غيرهم قربى إلى الله لا مقابل الجزية والخراج.