تنحصر الأزمة السياسية التي تمر بها مصر اليوم في صراع بين مختلف القوى الفاعلة على المسرح السياسي من أجل الوصول إلى كرسي الرئاسة أو التأثير بطريقة أو بأخرى في اختيار الرجل المناسب لهذا المنصب بما يتماشى مع لعبة المصالح بعد أن أصبحت الانتخابات على الأبواب، وقد احتدم هذا الصراع بمجرد تراجعالإخوان المسلمين عن موقفهم بهذا الخصوص واعلان الجماعة ذات الأغلبية البرلمانية والشعبية الواسعة في الأوساط المصرية عن ترشيح نائب مرشدها العام خيرت الشاطر للرئاسة المصرية. ولفك رموز هذه المعادلة السياسية يجب الرجوع إلى الأسباب الرئيسية التي دفعت باتجاه الأزمة التي ستمتد انعكاساتها وجوبا على الشارع المصري وعلى المسار الانتقالي في لحظة يكتبها التاريخ لمصر. ولعل من بين هذه الأسباب المباشرة، خطأ استراتيجي ارتكبه الإخوان بمجرد حصدهم الأغلبية في البرلمان، ألا وهو التسرع في المطالبة بإسقاط حكومة الجنزوري وتشكيل حكومة وحدة وطنية وإصرارهم على تحدي المجلس العسكري الممسك بزمام السلطة والرافض للفكرة آنذاك، حيث سرعان ما تطورت الأمور من مجرد اختلاف في وجهات النظر إلى تصدع في مستوى العلاقات بين الجانبين ثم أزمة حقيقية باتت ملامحها بارزة للعيان بعد اتهام الجماعة المجلس العسكري بالسعي لتزوير الانتخابات الرئاسية المقبلة وحل البرلمان المصري. فقد أدت هذه الأزمة إلى تقويض الصفقة السياسية المبرمة بوساطة أمريكية بين الإخوان والمجلس العسكري عقب الإطاحة بنظام حسني مبارك، والمتمثلة أساسا في فتح الباب أمام هؤلاء للفوز بالانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة مقابل عدم سحب كرسي الرئاسة من تحت أقدام المؤسسة العسكرية، وهو ما يفسر سعي المجلس الأعلى في الوقت الراهن إلى البحث عن تحالفات جديدة تضمن له مصالحه. ترشيح الشاطر وكما أن هذا الخطأ الاستراتيجي لم يكن كافيا، فقد تلاه خطأ ثان يمكن القول أنه أكثر فداحة ومن المؤكد أن تداعياته ستكون وخيمة على مستقبل الجماعة ويتمثل في مفاجأتها أعضاءها بالتخلي عن مواقفها السابقة بعدم الزج بأي مرشح لها في حلبة المنافسة على الرئاسة، وإعلانها ترشيحها نائب مرشدها العام خيرت الشاطر لهذا المنصب، الأمر الذي كان بمثابة سكب الزيت على نار الأزمة السياسية الملتهبة أصلا. وفي الواقع فإن الخطأ لم يكن في ترشيح الشاطر كشخص وليس هذا طعن في كفاءته، وإنما في مسألة الالتزام بمبدإ متفق عليه. فالجماعة كانت قد اتخذت قرارا بأن تبقى على حياد، وأن لا تخوض غمار المنافسة بشكل مباشر، ناهيك أن عملية ترشيح الشاطر أثارت شرخا هو الأوسع في تاريخ الجماعة نفسها، بحيث صوت لصالحه حوالي 56 بالمائة من أعضائها، مقابل 52 بالمائة ضده، وهذا يفرض طرح السؤال الهام التالي: كيف يمكن للشاطر خوض غمار الانتخابات الرئاسية واقناع الناخبين من خارج دائرة حزبه في حين أنه لم يحظ بأكثر من نصف أصوات حزبه؟، علما أن ترشيحه خلافا لما كان متوقعا ستكون له تداعيات مؤكدة على الساحة الدولية وخصوصا على مستوى الموقف الأمريكي الداعم إلى حد الآن للثورة المصرية، وللاخوان المسلمين باعتبارهم القوة الرئيسية التي اختارها الشعب المصري في انتخابات ديموقراطية نزيهة وشفافة. قلق أمريكي وفي هذا الخصوص ترى واشنطن أن وجود أكثر من مرشح اسلامي لسباق الانتخابات الرئاسية المصرية سيشكل تهديدا كبيرا أمام المصالح الحيوية الأمريكية وبالأخص أمن إسرائيل، لأنه بمجرد وصول أحد هذه التيارات الاسلامية إلى كرسي الرئاسة «ستنقلب الخريطة السياسية في المنطقة، ما يجبر أمريكا على اعادة ترتيب حساباتها من جديد» على حد تعبير العديد من المحللين السياسيين. فبالنسبة لواشنطن، ستكون النتيجة المباشرة لاعتلاء ممثل عن أحد التيارات الاسلامية عرش الرئاسة تغيير السياسة الخارجية المصرية في الشرق الأوسط باتجاه تقوية حركة «حماس» وايران وستكون مصر النموذج الديني الثاني مما يخول عودة العلاقات المصرية-الايرانية بقوة وتكوين جبهة دينية في المنطقة بما يتعارض مع المخططات الغربية لركوب موجة «الربيع العربي» وتطويعها لصالحها، كما من شأنه أن يسبب أيضا أزمات سياسية لتل أبيب، نظرا لأن معاهدة كامب ديفيد سوف تصبح على المحك. ولهذا يبدو من المسلم به أن الولاياتالمتحدة ستعمل جاهدة بطريقة غير مباشرة على عدم تولي مرشح اسلامي رئاسة مصر بالتنسيق مع المجلس العسكري ومنظمات المجتمع المدني والقوى الليبرالية من أجل إفشال الاسلاميين. لكن وسط هذه المعادلة السياسية المتشعبة التي تحكمها لعنة المصالح بين أطراف داخلية وأخرى خارجية، أين مصلحة مصر.. وأين موقع مصلحة شعبها الذي انتفض للظلم والاستبداد وأطاح بنظام مبارك.. وأين مصلحة المواطن المصري البسيط الحالم بحياة كريمة بكرامة محفوظة؟. لقد كان أجدر بالجماعة التي تسنى لها الفوز بأكثر من ثلثي مقاعد البرلمان المصري أن تظل في مكانتها المرموقة، وأن تلعب دور صانع الملوك، أي أن تقرر من هو رئيس الجمهورية المصرية المقبل ارتكازا على شعبيتها الكبيرة والتأييد الواسع الذي تتمتع به في أوساط المصريين، عبر دفع مؤيديها للتصويت له. وبهذا تضرب عصفورين بحجر واحد: تكسب ولاءه أو معظمه (الرئيس المقبل) مع ضمان تعددية حقيقية، وتؤكد ترفعها عن الاستئثار بالمناصب السيادية في الدولة. فمن الأفضل بالنسبة لمصر بصورة عامة، ولصورة «الإخوان» ومستقبلهم السياسي بشكل خاص، أن لا يكون رئيس مصر المقبل من رحم الجماعة. لأن حصر كل مراكز القرار بدءا من مناصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب، ورئيس لجنة صياغة الدستور لدى حزب واحد حتى وإن جاء عبر الديموقراطية وصناديق الاقتراع، لا يمكن اعتباره سوى قمة الديكتاتورية.