- عقدت الوزارة هذه الأيام ندوة دولية للتباحث في منهجية إصلاح المنظومة التربوية، وهذه بادرة مطمئنة تدل على تريّث وتثبّت قبل أخذ القرار و هي منطقية لأنها مرحلة تسبق الإصلاح، بيد أن النظر في المنهجية أو الاستراتيجية من الضروري أن تسبقه مرحلة معرفة ما سيصلح، أي مرحلة التشخيص والتقييم والتي على ضوء نتائجها تتحدد المنهجية،وبما أن التقييم لم ينجز تصبح هذه الندوة سابقة لأوانها، كالمثل التونسي الذي يقول ( سبّقْ الحصيرة قبل الجامع ). وكل إصلاح لا يرتكز على تقييم علمي داخلي وخارجي سوف لن يحقق المنشود. فلم لا نبدأ من البداية؟ ونطبق ما جاء في القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي. فقد خصّص الباب السابع منه للتقييم وجاء في فصله السادس والأربعين ما يلي:»تخضع كافة مكونات التعليم المدرسي للتقييم الدوري والمنتظم .ويهدف التقييم إلى القيس الموضوعي لمردود التعليم المدرسي والمؤسسات الراجعة إليه بالنظر وأداء العاملين بها ومكتسبات التلاميذ،بغية إدخال الإصلاحات والتعديلات اللازمة لضمان تحقيق الأهداف المرسومة».وهذا ما لم ينجز منذ تطبيق الإصلاح الأخير باستثناء تقييم مكتسبات التلميذ طبعا. وبما أننا نتحدث عن التقييم، أرى لزاما عليّ أن أعرّفه و سأكتفي في هذا المقام بإيراد تعريف واحد من ضمن مئات التعريفات المتشابهة أو المتقاربة. يعرّف( دكتال de Ketele) أحد المختصين في علوم التربية التقييم بأنه « فحص لدرجة الملاءمة بين مجموعة من المعلومات،ومجموعة من المعايير الملائمة للهدف المحدد لأجل اتخاذ قرار.» والذي يهمنا في هذا التعريف هو اتخاذ قرار يستند إلى مرجع، هذا هو القيس الموضوعي المقصود. وكما تلاحظون فقد حظي التقييم بمكانة بارزة في القانون التوجيهي،بيد أنّ الواقع الميداني لا يعكس هذا الاهتمام. فالتقييمات في هذا المجال نادرة عندنا وإن صادف أن قيمنا مرّة، فقلما نستثمر نتائجها. و إذا استثنينا تقييم مكتسبات التلاميذ وزيارات تفقد المدرسين أمكننا القول أن لا تقاليد لنا في هذا الميدان و لا ثقافة،رغم أن بناء أي مشروع اليوم يقتضي ضمن عناصره خطّة مفصلة لمتابعة إنجازه و تقييمه وما تتطلبه من آليات ووقت وموارد بشرية. أما نحن فمازلنا نضع مشاريع في غاية الإحكام لكن لا نقترح خطة لتقييمها.رغم أن القانون التوجيهي أشار إليها في بعض فصوله. ويحسن في هذا المقام أن أذكّر بأنّ الوزارة في سنة 1997 - 1998 أصدرت نصا في الرائد الرسمي يخصّ إحداث لجنة وطنية للتقييم وضبطت مهامها وتركيبتها ولجانها الفرعية، لكن بقي هذا النص مشروعا لم ينجز. وفي سنة 2007 2008 صدر نصّ آخر شبيه بالنص السابق ويخصّ إحداث لجنة وطنية للتقييم،وأجهض هذا المشروع كذلك فلم ير النور. فلِمَ إذن تصدر مثل هذه النصوص؟ ومن المسؤول عن عدم تنفيذها؟. فلو نشطت هذه اللجنة أو تلك وقدمت تقارير تقييماتها واتخذ أصحاب القرار نتائجها و مقترحاتها في الاعتبار لتجنبنا مواقف وقرارات أقلّ ما يقال عنها أنها لم تكن مدروسة ولا مناسبة،وكانت انعكاساتها وخيمة على التربية، وإن كانت وزارات ما قبل الثورة لا تعتني بالتقييم خشية نتائجه فماذا تخشى هذه الوزارة؟ ألم يكن من الأجدى أن تبدأ بوضع خطة لتقييم مكونات المنظومة وتأخذ الوقت اللازم لإنجازها من أن تشرع في إصلاح يقوم على مجرد انطباعات وملاحظات وتقع في ما وقعت فيه سابقاتها، وتأتي حكومة بعدها فتصلح الإصلاح وهكذا دواليك وكأن رياح الثورة لم تهب على شارع « باب بنات» . فعوض أن نروج لمنهجية الإصلاح يحسن أن نبدأ بمنهجية التقييم ومجالاته وعلى ضوء نتائجه ستتضح منهجية الإصلاح. فالإصلاح الذي يقوم على لجان مهما كانت تركيبتها وعلى استشارات وطنية، هو إصلاح ذو بعد سياسي قد يقبل في تحديد الغايات الكبرى للتربية والتعليم فقط، وهذا أمر سابق لأوانه ولا يمكن الحديث عنه قبل إقرار الدستور الجديد، أما التقييم الذي نريد اليوم والذي يعدّ لإصلاح حقيقي فهو تقييم علمي يكون من خارج المنظومة ويعهد به إلى مكاتب مختصة، وتقييم داخلي لمردود كل المؤسسات التربوية.لأن لكل مدرسة خصوصياتها وصعوباتها حتى وإن تواجدت في نفس المحيط.وإن لم نقدر اليوم على تقييم كل المدارس فيمكن أن نبدأ بعينة من المدارس المتدنية النتائج و عينة من المدارس المتفوقة، ألا تستحق المعاهد النموذجية أن يقيّم مردودها تقييما علميا بعد أن مرّ على إحداثها أكثر من عشرين عاما،إن حققت أهدافها فيمكن الاستفادة منها في تطوير المدارس الأخرى، وإن لم تحقق وجب مراجعتها.وهنا أريد أن أعرج على آلية من آليات التقييم الداخلي وهي آلية «التدقيق» التي تساعد المؤسسة على بلوغ أهدافها دون اللجوء إلى أساليب المراقبة والمحاسبة لأنها تحليل منظومي منهجي لوظائف مؤسسة تربويه بعينها (معهد أو مدرسة) يعتمد في ذلك مؤشرات ومعايير واضحة ومتفق عليها بغية معرفة النتائج والوقوف على المشاكل والعوامل التي أثرت في تلك الوظائف، فهي في النهاية مساعدة لوجستية منهجية يشترك فيها المدققون مع العاملين بالمؤسسة للوصول إلى مقترحات عملية وإجراءات تطبيقية تطور مردود المدرسة وتكسب المشرفين عليها خبرة تمكنهم في المستقبل من تقييم مؤسساتهم بأنفسهم.وتحفزهم على الانخراط في مشروع الجودة الذي ننشد. وأشير في هذا الموضع إلى أن الوزارة كوّنت منذ بضع سنوات فريقا من المتفقدين البيداغوجيين والإداريين في التدقيق والجودة.لكن لم تعط لهم فرصة العمل على الميدان بصورة فاعلة وناجعة، وأن مجموعة منهم قد أحيلت إلى التقاعد دون أن يستفاد من تكوينها . إذن خلاصة القول،إن تطوير المنظومة التربوية يحتاج إلى «تغذية راجعة « إلى معلومات ومؤشرات تساعد على أخذ القرار السليم لمواصلة الإنجاز وهذا لا يتسنى إلا بمعرفة مردود المؤسسات التربوية على المستوى الوطني ومردود كل مؤسسة بمفردها. وإن كانت المدخلات في التربية معلومة والمخرجات لا تتطابق معها فمكمن الخلل إذن في هذا الصندوق الأسود، أي ما ينجز في فضاء القسم وفي امتداداته بفضاء المدرسة.و التي تخصّ الفاعلين فيها وهم بالأساس: المدرسة والمدرس والتلميذ. ما لم يتم النظر في واقع المدرسة وما يجري في القسم فكل إصلاح يخرج عن هذا الفضاء سيكون مرتجلا وغير ذي جدوى باستثناء الحسابات السياسية الضيقة. ٪ متفقد عام للتربية