تونس بين خياري الحوار و«الفوضى الشاملة» يجد التونسيون أنفسهم مجددا في مرحلة انتقالية حرجة.. في ظرف تعمقت فيه التجاذبات والتناقضات بين الأطراف السياسية.. وفي نفس اليوم الذي تقدم فيه عدد من نواب «الترويكا» وخاصة أعضاء من حزب المؤتمر من اجل الجمهورية في المجلس الوطني التأسيسي بمشروع استبعاد المسؤولين السابقين في عهدي بورقيبة وبن علي من الترشح للانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة ، برزت في عدة جهات وقطاعات مؤشرات «تصعيد شامل» للأوضاع الأمنية والاجتماعية والسياسية.. ولا يستبعد عدد من الخبراء أن تستفحل أعمال العنف إذا تمسكت قيادات حزبي الرئيس المنصف المرزوقي والنهضة بمشروعها.. الذي سيعني عمليا إقصاء كل الوزراء وأعضاء القيادات المركزية للحزب الدستوري ومنظمات رجال الأعمال والفلاحين واتحاد الشغل من العملية السياسية والانتخابية القادمة.. بما في ذلك السادة الباجي قائد السبسي وكمال مرجان ومحمد جغام والصحبي البصلي وفوزي اللومي.. وقد تعالت الأصوات المعارضة لهذا المشروع بما في ذلك على لسان العميد عياض بن عاشور رئيس الهيئة العليا لحماية الثورة التي سبق أن أصدرت الفصل 15 من المرسوم الانتخابي والذي منع المسؤولين البارزين سابقا في حزب التجمع وفي الدولة من المشاركة في انتخابات 23 اكتوبر الماضي..
البرنامج الجديد للحكومة؟ وفي الوقت الذي كان من المتوقع أن يسجل فيه انفراج بمناسبة الكشف عن فحوى الميزانية التكميلية وروزنامة الانتخابات والمواعيد القادمة ، ارتفعت حدة الاتهامات المتبادلة بين الائتلاف الحاكم بزعامة حزب النهضة ومعارضيه.. ودخل التوتر منعرجا جديدا واخذ أشكالا غير مسبوقة من العنف اللفظي والمادي بسبب ملفات الأمن والإعلام العمومي عموما وملف التلفزة خاصة.. بل لقد انتشرت رقعة التوتر بعد أن تبنت جبهتا «الحزب الجمهوري» بزعامة الجريبي والشابي و«الديمقراطي الاجتماعي» بزعامة احمد إبراهيم مطلب المعارضين لخوصصة الإعلام العمومي.. واتهمتا جهات في الحكومة بمحاولة فرض هيمنتها على قطاع الإعلام.. عبر الحديث عن إمكانية بيع مؤسسات عمومية للقطاع الخاص..
بيع مؤسسات الإعلام العمومي؟
وتؤكد مصادر صحفية ومن نقابات عمال التلفزة تعرّض نسبة من العاملين في المؤسسة منذ مدة إلى استفزازات مجانية والى عنف لفظي أثناء توجههم إلى مراكز عملهم ومغادرتهم له.. وبلغ العنف أقصاه يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين لما اصطدم «المعتصمون» أمام مقر م التلفزة ( منذ حوالي شهرين ؟) مع متظاهرين معارضين لهم جلهم من موظفي التلفزة وأعوانها وصحفييها.. وكانت القطرة التي أفاضت الكأس اليافطات التي رفعت أمام مدخل التلفزة وكتب عليها :» قناة 7 للبيع « و» تلفزة معروضة للتفويت للقطاع الخاص «..ويافطات تتهم كل الصحفيين بالكذب..؟؟ هذا «الاستفزاز» جمع عددا كبيرا من عمال مؤسسة التلفزة تعبيرا عن اعتراضهم على مقترح التفويت في مورد رزقهم وفي وسائل الإعلام العمومية عموما للقطاع الخاص..
منع اجتماعات سياسية؟
العنف اللفظي والمادي بلغا حدا أقصى أمام مقر التلفزة الوطنية وفي بعض اجتماعات نشطاء المعارضين في الجهات..من بينهم الجامعي والخبير القانوني جوهر بن مبارك وحركة «دستورنا» والناشطون الأزهر العكرمي ومحسن مرزوق.. وقد سجل التصعيد « الرمزي « كذلك بعد أن منع تجمع سياسي كبير في صفاقس كان سينظمه أنصار مبادرة السيد الباجي قائد السبسي.. بالرغم من تزامن التجمع مع لقاء عقده الوزير الاول السابق مع رئيس حركة النهضة السيد راشد الغنوشي ضمن سلسلة لقاءات الغنوشي بالشخصيات السياسية والثقافية والإعلامية المعارضة لحزبه وبعدد من ابرز صناع السياسة من تونسيين وأجانب..؟ من يعين مديري وسائل الإعلام؟ وبالرغم من تبرؤ الحكومة وقيادات حزب النهضة من اعتصام التلفزة فان شخصيات من المعارضة ومن المستقلين مثل العميد الصادق بلعيد وبعض الإعلاميين وجهوا إلى المسؤولين في الفريق الحكومي الحالي اتهامات خطيرة من بينها «الاستبداد والفاشية».. الخ. ومن خلال قراءة بيانات الأطراف السياسية يتضح اليوم أن جوهر الخلافات أعمق بكثير من حوادث العنف التي سجلت أمام التلفزة أو حول الجهة التي يحق لها أن تعين مديري وسائل الإعلام العمومية هل هي الحكومة أم لا ؟
تسريع موعد تنظيم الانتخابات؟
ويتضح من خلال التجاذبات هنا وهناك أن المسكوت عنه في كل الصراعات حول الإعلام والأمن وملفات حقوق الإنسان وجرحى الثورة هو المسار الانتخابي القادم ؟؟ وتبدو كل الأطراف حريصة على أن تضمن لنفسها موقعا في المشهد السياسي بعد الانتخابات القادمة : المعارضة متخوفة من « تمديد التحالف الاستراتيجي بين الترويكا الحالية».. في المقابل فان قيادات الائتلاف الحاكم حاليا متخوفة من «عودة التجمعيين والدستوريين البورقيبيين» لذلك فهي تسعى لتغيير الواقع على الأرض لصالحها عبر سلسلة من التعيينات والتسميات في مختلف مؤسسات الدولة والإدارة محليا وجهويا ومركزيا.. كما تحاول استبعادهم من اللعبة القادمة « وفاء لمبادئ الثورة « وحتى لا يوظفوا مواقعهم المالية ووزنهم في الإدارة للعودة إلى السلطة بعد الانتخابات بعد أن ثار الشعب ضدهم في جانفي 2011»... ويبدو أن الحل الأمثل للخلافات والمزايدات يبدأ بتسريع تنظيم الانتخابات القادمة.. والعمل على أن لا تتجاوز موعد اكتوبر القادم.. حتى تخرج البلاد من « ورطة السلطات الانتقالية والحكومات الوقتية».. ولا يخفى أن صياغة الدستور يمكن أن تستكمل قبل حلول شهر جويلة القادم.. خاصة بعد قرار حزب النهضة بالتخلي عن مطلب إدراج مرجعية الشريعة في الدستور واعتماد الفصل الأول الذي ينص على الصبغة الجمهورية والعربية الإسلامية للدولة.
خطر الفوضى الشاملة؟
وماذا إذا انتصر دعاة القطيعة والصدام والمواجهات وتعذر تحقيق وفاق يمكن من التوصل إلى تنظيم الانتخابات القادمة في اقرب وقت ؟ في هذه الحالة سيجد ساسة تونس أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إحداث آليات عليا للحوار الوطني ترعاها رئاسة الجمهورية والحكومة ورئاسة المجلس الوطني التأسيسي أو الزج بالبلد في مرحلة « فوضى شاملة» ينتصر فيها قانون الغاب.. ودعاة «النموذجين الصومالي والعراقي».. و«اللبننة».. عسى أن تنتصر الحكمة.. وان يفهم الجميع أن دق مزيد من الأسافين في المركب يعني غرق كل ركابه بصرف النظر عن الألوان السياسية والحزبية للمسافرين على متنه..