على مدى أكثر من ساعتين تابع أكثر من عشرين مليون فرنسي دون اعتبار لغيرهم من المتفرجين في مختلف أنحاء العالم أطوار المناظرة التي جمعت الرئيس الفرنسي المتخلي نيكولا ساركوزي ومنافسه زعيم الاشتراكيين فرانسوا هولاند في تقليد دأبت عليه عديد الانظمة الديموقراطية التي استطاعت أن تقطع مع السائد والمألوف بين الحاكم والمحكوم حيث المنتصر الاول والأخير تبقى إرادة الشعب التي لا تحتكم لغير ما يفرزه صندوق الاقتراع. قبل أيام اذن على موعد الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستحدد زعيم الاليزيه للسنوات الخمس القادمة كانت المناظرة التي وان كان واضحا أن كلا المتنافسين يعولان عليها لاجتذاب أصوات المترددين فان الارجح حسب أغلب الخبراء والملاحظين أن الناخب الفرنسي قد حسم خياره باعتبار أنه قلما كان للمناظرة تأثير يذكر من شأنه أن يحدث مفاجأة من شانها قلب نتائج ما ذهبت اليه أغلب استطلاعات الرأي ... قد تكون الصدفة وحدها شاءت أن يكون اللقاء عشية اليوم العالمي لحرية الاعلام بكل ما يعنيه هذا الموعد من أهمية في القاموس السياسي والإعلامي على حد سواء في بلد نهل من ثقافة حرية الرأي والتعبير وكرس مبدأ التنافس الديموقراطي في اللعبة السياسية التي وان لا تخلو من رائحة الفضائح والحسابات فإنها تمنح كل طرف الفرصة نقسها لمخاطبة الرأي العام والفوز بثقته ... ولعل الدرس الأول الذي ارتبط بتلك المناظرة كان مرة أخرى مرتبط بواقع اعلامي يتعطش اليه الكثيرون ممن يتطلعون الى كسب رهان المعركة الاعلامية بعد عقود من القمع والتهميش وتغييب المهنية,هو واقع جمع بين والحياد والحرفية والشفافية في التعامل مع متنافسين شرسين على قدر المساواة دون مفاضلة أو تحامل أو مجاملة و دون تملق أو ولاء أو رياء ,التوقيت الالكتروني كان الفيصل بين الرجلين وكلما حادت عقارب الساعة لصالح أحدهما جاء صوت أحد الصحفيين اللذين أدارا اللقاء لتعديل الكفة .اللقاء الذي طغت عليه القضايا المحلية المرتبطة والتي تشكل الأولويات في اهتمامات المواطن الفرنسي بشكل مباشر أو غير مباشر خصص الربع ساعة الاخير للملفات الخارجية وتصدر بذلك الملف النووي وقضايا الارهاب ومعه المشهد الأفغاني جزءا من اللقاء قبل العودة الى مخاطبة الرأي العام كل على طريقته ...لعنة القذافي كانت تطارد ساركوزي الذي وجد نفسه في أغلب الاحيان في وضع المدافع عن مرماه على عكس هولاند الذي كان في دور المهاجم الذي لم يضيع أدنى فرصة لاستنقاص منافسه وتحميله نتائج مختلف الازمات التي تعاني منها فرنسا ... رغم شراسة المتنافسين ورغم اقترابهما من التصادم في أكثر من مناسبة خاصة عندما تعلقت التدخلات والردود بالملفات الحساسة المرتبطة بالمهاجرين والمشاركة في الانتخابات فان اللقاء لم ينحدر الى مستوى التجاذبات التي يمكن أن تحيد عن احترام المتفرج . لم تتحول المناظرة الى مبارزة صاخبة لا تفيد المستمع وظلت في جوانب كثيرة منها أشبه بالامتحان الشفوي العسير الذي يستوجب على الطلبة الخضوع له أمام هيئة الامتحان قبل الدخول في عالم البحث عن فرص الحياة المعقدة . الاتهامات المبطنة حينا والمباشرة حينا آخر من الجانبين كانت حاضرة و قد طغت على ساركوزي شخصية السياسي المحنك المطلع بالتفصيل على أغلب ملفات السياسة الداخلية المرتبطة بالاقتصاد والبطالة والقضايا الاجتماعية والأمنية وهي نفس الملفات التي سمحت لهولاند بتسجيل مواقف قوية في توجيه الاتهامات لمنافسه بالفشل في تحقيق ما يتطلع اليه المواطن الفرنسي على مختلف المستويات و قد دخل هولاند المناظرة متسلحا باستطلاعات الرأي التي منحته التقدم منذ الدورة الاولى للانتخابات والتي لم يسبق أن سجلت معها تغيرا يذكر في مواقف الناخب الفرنسي في الدورة الثانية من السباق .ونجح هولاند بمقتضى ذلك في توجيه عدة ضربات للرئيس المتخلي و كان ساركوزي في كل مرة يستعيد موقعه في اللحظات الاخيرة ليستعيد زمام الامور ولكن الأمر لم يكن بالهين عليه .وربما كان الخطأ الاكبر لساركوزي تعرضه في حديثه الى دومينيك ستاروس كان ولكن هولاند لم يكن لديه الحضور الذهني المطلوب ليحول ذلك التدخل لصالحه... وفي انتظار ما يمكن أن تحمله نتائج الجولة النهائية من الانتخابات فان الواقع أن الفائز الاول كان الرأي العام الفرنسي بمختلف توجهاته وايدولوجياته بقطع النظر عمن سيحتل الاليزيه خلال السنوات الخمس القادمة... فهل تشهد الساحة السياسية في تونس يوما مناظرة مماثلة ؟ سؤال يخامر الكثيرين دون شك في انتظار ما سيؤول اليه المخاض الديموقراطي في بلادنا...