وكأنّ الطاهر الحدّاد لم يكفه ما عاناه في حياته القصيرة حتى لا يهنأ في قبره. فالرجل الذي تمت مقاومته بقوة في حياته بسبب أفكاره الإصلاحية حيث جرّد من شهاداته العلمية وحرم من حقه في المواطنة وهوجم موكب دفنه ها أن قبره يتعرض (منذ ايام) للتنكيل حيث تطاولت الأيادي العابثة على حرمة جثمانه الذي يرقد منذ عقود بمقبرة الزلاّج بالعاصمة. وكأنّ قدر الطاهر الحداد حيّا وميّتا الجحود ونكران الجميل. فبدلا من أن نكرمه ونترحّم على روحه الطاهرة ونتذكّر دائما أن ما تحقق من إصلاحات اجتماعية في تونس كان للطاهر الحداد نصيب الأسد في بثها بين النّاس من خلال فكره النيّر ونظرته الإستشرافيّة ومن خلال نضاله النقابي والإجتماعي والسياسي من أجل النهوض بالمجتمع التونسي, بدلا من ذلك تجرؤ الأيادي القذرة والنّفوس المريضة على التنكيل بحرمة قبر رجل كل ذنبه أنه اجتهد من أجل إخراج بلاده من حالة الظلمات إلى النور, اخراجها من ظلمات الجهل والرجعية والميز العنصري إلى نور التقدم والعدالة الإجتماعية. جاء الخبر في البداية على أمواج إذاعة "شمس آف آم" صاعقا. كدنا أن لا نصدق لأنه مهما توقعنا فإننا لا نتوقع أن يطال العبث الأموات وهي أمور ليست موجودة لا في أعرافنا ولا في شريعتنا ولا في أخلاقنا ولولا التفاصيل الدقيقة التي قدمها الزميل سفيان بن فرحات لما كنا نصدق أن الطاهر الحداد يمكن أن يتم التنكيل اليوم بقبره ويا لعبث الأقدار بعد أكثر من 77 سنة على الحادثة التي تعرض لها موكب دفنه وهي حادثة سجلها التاريخ بأحرف غليظة. الطاهر الحداد كان قد رحل عن الدنيا بعد حياة قصيرة استغرقت حوالي 36 سنة. لكنها كانت حياة مليئة بالعمل والفكر والنضال على عدة واجهات من أجل الرقي بالمجتمع. كان رحمه الله قد ولد سنة 1899 وتوفي سنة 1935. للأسف تأكّد خبر التنكيل بقبر الطاهر الحداد في وقت اعتقدنا فيه أن التونسيين ازدادوا إجلالا لأفكاره التقدمية مثله مثل بقية المصلحين. للأسف تأكد الخبر ووقف التونسيون على حقيقة مؤلمة. هناك من بيننا من مازال يفضّل العنف والتنكيل كوسيلة للتعبير. هناك من بيننا من باتت تخشاه الأحياء والأموات معا طالما وأنه لا شيء يوقفه, لا واعز ديني ولا أخلاقي ولا هم يحزنون. لا شيء له معنى عندهم. لا قيم ولا إنسانية. كل شيء يداس بالأقدام. أي ذنب ارتكبه الطاهر حتى ينال هذا الجزاء من أبناء وطنه بعد عقود من الزمن من المفروض أن الناس تخلت عن جاهليتها وتراءت لها حكمة الطاهر الحداد وبصيرته وهو الذي لما نادى بتحرير المرأة وألف كتابا في الغرض " امرأتنا في الشريعة والمجتمع " وكان شابا يافعا لم يكن همه سوى رفع الغشاوة عن العقول. أفكار الطاهر الحدّاد المناهضة للميز العنصري ضد المرأة والرافضة لتعدد الزوجات والتي استلهمت منها أبرز بنود مجلة الأحوال الشخصية التي بادرت الدولة الحديثة بزعامة الرئيس بورقيبة بإعلانها بمجرد الحصول على الإستقلال جعلت المجتمع التونسي نموذجا يحتذى, مجتمع من أبرز ميزاته أنه يعوّل على كل طاقاته ويرفض أن يمشي على ساق واحدة وأن يكون مبتورا. من المفروض أن بعض التونسيين يتوجهون اليوم إلى مقبرة الزلاّج حيث يرقد الطاهر الحداد لوضع زهرة على قبره في حركة احتجاجية واضحة على ما تعرض له من إساءة. ربما لا يمكن لمثل هذه الحركات أن تشفي الجرح بالكامل ولكن عزاءنا أن الفئة التي أعماها الجهل حتى تقدم على عمل كهذا فئة قليلة لن تنجح في تمرير مشاريعها الظلامية على التونسيين. نم هانئا الطاهر الحداد أنت وأبناء هذا الوطن الذين سبق حب البلاد عندهم على حب الحياة. فأفكارك التي حاربها الظلاّميون أقوى من أن تمحيها محاولات غادرة. فلا شيء يمكنه أن يغطّي نور الشمس.