- عاش العالم نهاية الاسبوع المنقضي على وقع حدثين أساسيين لا يقل احدهما أهمية عن الآخر, ومع ذلك فان أحد الحدثين ممثلا في نتائج الانتخابات الفرنسية استأثر بالاهتمام في مختلف الاوساط الإعلامية والسياسية الرسمية وحتى الأوساط الشعبية.. فيما بقي الحدث الثاني ممثلا في عودة بوتين إلى الكرملين أشبه بالخبر العابر. وفيما تحوّلت هزيمة ساركوزي وفوز المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند إلى موضوع الساعة بدأت معه رحلة البحث بين الملاحظين والخبراء كل من موقعه عن التحولات المرتقبة على المستويين الداخلي والخارجي في السياسة الفرنسية بعد عودة اليسار إلى الاليزيه من الأبواب العريضة وتنطلق القراءات في محاولة لاستباق الأحداث وتحديد أولويات الرئيس الفرنسي والمواعيد الكبرى المرتقبة في المرحلة القادمة كل ذلك في خضم تفاقم الازمة الاقتصادية وارتفاع نسق البطالة وشبح أزمة الديون وتدابير التقشف التي تزعج الفرنسيين, ظل الحدث المتعلق ببوتين دون متابعة تذكر بعد أدائه اليمين الدستورية رئيسا لروسيا للسنوات الست القادمة بعد أربع سنوات قضاها في رئاسة الوزراء ليتبادل الادوار مع رئيسه السابق ميدفيدف ويقطع الطريق أمام غيره من الطامحين برئاسة روسيا. بين الكرملين والأليزيه والحقيقة أن أي مقارنة بين نتائج الانتخابات الفرنسية وبين نتائج الانتخابات في روسيا أمر قد لا يخضع للمقارنة رغم أن كلا من فرنساوروسيا وريثة الاتحاد السوفياتي السابق عضو قار في مجلس الامن الدولي ومن القوى النووية والعسكرية والاقتصادية التي يحسب لها العالم أكثر من حساب. على أن الواقع أن بين وصول المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند إلى عرش الرئاسة وبين وصول بوتين يكاد يكون كالفارق بين الارض والسماء. وفي الوقت الذي كانت فرنسا تحتفل في ساحة الباستيل المعقل الرمزي لليسار بنتائج الانتخابات كانت قوات الامن في روسيا تقمع المتظاهرين الذين خرجوا للشوارع احتجاجا على عودة بوتين إلى السّلطة واستبدال موقعه مع الرئيس السابق ميدفيدف الذي سيتولى رئاسة الوزراء.. والحقيقة أن في نتائج الانتخابات الفرنسية أكثر من رسالة حول اللعبة الديمقراطية عندما يكون الشعب سيد قراره ويكون للمواطن الحق في اختيار رئيسه وفق قناعاته الخاصة دون هيمنة أو ابتزاز أو مساومات من أيّ طرف كان. وهو ما اكتشفه الجميع عبر مختلف محطات الانتخابات الرئاسية الفرنسية منذ أول انطلاق الحملة الانتخابية إلى غاية اعلان فوز هولاند على حساب ساركوزي وفقا لمختلف استطلاعات الرأي الفرنسية.. على أن الأكيد أن مسارعة مختلف قادة العالم لتهنئة هولاند بعد فوزه لم يقابلها تحرك مماثل عندما أعلن عن عودة قيصر روسيا إلى الكرملين رغم كل ما تحظى به روسيا من وزن عندما يتعلق الامر بالملفات والازمات الدولية العالقة أو البحث عن التوازنات عندما يتعلق الامر بقضايا مصيرية وحسّاسة كما هو الحال مع الملف النووي الايراني والازمة في سوريا وهي من الملفات التي كان ولايزال لروسيا كلمة فيها. وبالعودة إلى طريق المترشحين إلى كل من الاليزيه والكرملين فان الواضح أن الطريق على خطى نقيض وأن مفهوم الديمقراطية وثقافة الممارسة الديمقراطية لا يقبل المقارنة بين تجربتين متناقضتين بين قوتين نوويتين تعتبر إحداهما أن الديمقراطية خيار لا بديل عنه وترى الثانية أن الديمقراطية خطر لا حاجة لها، وأن بوتين وحده الكفيل بضمان وحماية أمن روسيا واستقرارها وازدهارها... هولاند وفرنسا والعالم العربي لعل من حاول البحث بشان الخطوط المحتملة للسياسة الخارجية الفرنسية وأولويات الرئيس الفرنسي الجديد ازاء المنطقة العربية بما في ذلك دول شمال افريقيا ومنطقة الشرق الاوسط أو الخليج العربي وهي علاقة مختلفة في أبعادها وتداعياتها وأهدافها, قد اصطدم بغياب السياسة الخارجية عن اهتمامات المتنافسين العشرة منذ بداية الحملة الانتخابية الرئاسية التي تركزت أساسا حول القضايا المحلية منذ الدورة الاولى, و كان من الطبيعي جدا الا يساعد ذلك على تقديم الاجابات المطلوبة بشأن توجهات فرنسا المستقبلية ازاء العالم العربي, وكان الغموض سيد الموقف حتى نهاية السباق لولا ما ورد في الربع الساعة الاخير من المناظرة الوحيدة والاخيرة التي جمعت الرئيس المتخلي نيكولا ساركوزي بخصمه الاشتراكي فرانسوا هولاند قبل الجولة الثانية للانتخابات. وقد راوح النقاش حول ثلاث قضايا كانت ولاتزال محل جدل بين الفرنسيين وأولاها متعلقة بمستقبل محطات الطاقة النووية والثانية مرتبطة بالوجود الفرنسي في أفغانستان فيما كان الملف الثالث مرتبطا بعلاقة فرنسا بافريقيا وتحديدا بما يحدث في دول الساحل بعد انقلاب مالي. وكان واضحا أن مواقف الرجلين لم تكن متباينة بدرجة واسعة والاختلاف الظاهر تمحور أساسا حول موعد الانسحاب الفرنسي من أفغانستان. وقد يكون من المهم الاشارة إلى أنه بعد الاتفاق الحاصل بين الاليزيه وبين مدير حملة هولاند بيار موسكوفيتش على أن يكون انتقال السلطة بين الرئيس المتخلي وبين خلفه في 15 ماي الجاري ليكون هولاند على اول موعد دولي له في مجموعة الثمانية ومنه إلى موعد قمة الحلف الاطلسي التي تعقد في شيكاغو في 20 -21 ماي الجاري والتي ستكون الاختبار الاول الذي ينتظر هولاند بكل ما يعنيه ذلك من التزامات سابقة لفرنسا مع حلفائها في الاتحاد الاوروبي أو في الحلف الاطلسي... فليس سرا أن قرار ساركوزي العودة إلى قيادة الاطلسي قد اثار انتقادات عديدة وكلفه الكثير خاصة بعد أن باتت الديبلوماسية الفرنسية توصف بأنها ملحقة بالبيت الابيض واعتبر ساركوزي أكثر الرؤساء الفرنسيين ارتباطا بأمريكا. ومن هذا المنطلق فسيكون لزاما على هولاند الاختيار دون تردد بشأن وجود 3300 من القوات الفرنسية في أفغانستان اذا كان يريد القطع مع خيارات ساركوزي والتزامات فرنسا في الحلف الاطلسي. والملف الافغاني لن يكون الوحيد وان كان الاقرب ضمن المواعيد فقد سبق لهولاند أن صرح بأن فرنسا ستشارك في أي عمل عسكري في سوريا اذا أقرت الاممالمتحدة ذلك.. وتبقى قضية السلام في الشرق الاوسط من أكثر القضايا المغيبة في اهتمامات فرنسا حتى وان كان الاتحاد الاوروبي الممول الاول للسلطة الفلسطينية, ولا شك أن فرنسا ظلت حتى الآن مترددة في اعلان دعمها قيام دولة فلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية وتحديدا القرار 242 و338, وبقيت فرنسا على خط الحياد سواء كعضو دائم في مجلس الامن أو كذلك في اللجنة الرباعية... ...ورياح الربيع العربي على أن الاكيد أن الرئيس الجديد لفرنسا, وهي التي تعد الشريك الاقتصادي والعسكري والثقافي الابرز الاول لدول شمال افريقيا سيكون أمام تحولات كبيرة فرضتها رياح الربيع العربي على المنطقة وصعود الاسلاميين لاول مرة إلى سدة الحكم في أكثر من بلد عربي بعد أن شكل الاسلاميون وعلى مدة عقود عنوانا للفزاعة التي اعتمدتها الانظمة السابقة لكسب دعم وتأييد الغرب الذي أسقط من حساباته في كثير من الاحيان مطالب الشعوب وتطلعاتها للمبادئ الكونية والعدالة وحقوق الانسان والحريات المنهكة لصالح الانظمة والطغاة في المنطقة... لا أحد طبعا بامكانه أن ينسى في تونس الثورة موقف فرنسا المتردّد ابان الثورة ولا أحد يسقط من ذاكرته تصريحات وزيرة الخارجية السابقة ماري اليو وهي تعرض خدمات بلادها لقمع الثورة الشعبية التي فاجأت فرنسا كما فاجأت بقية العالم . ولعل فرنسا بزعامة هولاند اليوم مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى اعادة النظر في علاقاتها بدول المنطقة والتعامل مع الشعوب بعيدا عن عقلية المستعمر المتعالي الذي لا يرى تلك الشعوب الا تابعة أو خاضعة له, ولا تكون الانظمة فيها الا حراسا مجندين لتأمين حدودها في وجه الهجرة غير المشروعة وتكون لها عين لا تنام على مصالحها الامنية من الارهابيين . سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن تغييرا جذريا سيطرأ على السياسة الفرنسية ازاء الشرق الاوسط والصراع الفلسطيني الاسرائيلي سواء في اطار الدور الفرنسي في مجلس الامن أو في اطار اللجنة الرباعية, ولا أحد يتوقع تغييرا يذكر في الموقف الفرنسي من انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي فتلك مسألة لا يبدو بشأنها خلاف بين مختلف الاحزاب السياسية في فرنسا واليمين كما اليسار لا ينظر بعين الرضا إلى انضمام تركيا إلى سقف أوروبا رغم اتفاق كل الاطراف بشأن موقع تركيا في الحلف الاطلسي, ولكن الارجح أن فرنسا قد تجد نفسها مدعوة إلى مراجعة الشراكة من أجل المتوسط لتكون شراكة الند للند كما سبق لوزير الخارجية الفرنسي الان جوبيه الإعلان عنه من تونس خلال زيارته الثانية لها لتكون شراكة تحتكم إلى مصلحة الشعوب وليس إلى مصلحة الحكام الضيقة بعد أن أثبتت التجربة وأن مشروع الاتحاد من أجل المتوسط ولد ميتا ولم يكن أكثر من محاولة من جانب ساركوزي لفرض التطبيع مع اسرائيل على دول المنطقة عبر بوابة المتوسط ...