- سيّدي رئيس الجمهوريّة، والدي - رحمه الله - لم يكن خريج معهد ثانوي ولا كلية بإحدى الجامعات التونسية ولا العربية ولا الأمريكية، و لم يترك لنا ثروة من العلم والأدب فلا دور النشر ولا مراكز الترجمة تعرفه، ولكنه عاش طوال حياته رجلا ثبتا في كلامه، لسانه لا يزال عند الخصومات، في الأمر والرّأي لا يعجل، فكان بكلّ أخلاق الرّجال قد مهر وثبت، إذا ما صيح بالقوم وقر، ينتصر للحقّ ويدعو للوقوف مع كلّ من ظلم... حادثتان وقعتا في بلادي هذه الأيّام جعلتا مصابي جليلا و ظننت أنّك - سيّدي الرّئيس - ستديل الأمور و لكنّك بصمتك و تغيّبك وتجاهلك جعلتني أردّد في سرّي و علانيتي: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهّند (1) لأنّ التّاريخ قد حسم الأمر فهل رأيت التّاريخ يوما يعود القهقرى؟ إنّك سكتّ عن الحقيقة و لم تصدع بها وهو عمل غير محمود. لمن أشكو حزني و بثّي حينما يعتدى على صاحب العقل ورافع راية العقل الفيلسوف يوسف الصّديق ؟ لبله و عميان أم لمن كتب عن سجن العقل لمّا كنّا و كنا لنا فيما مضى رجل حقوقيّ؟ و لكن من يبقى على العهد؟ إنهم و إن كثرت دواعيهم لقليل (2) أمام من أتقيّأ أحزاني؟ لمالكي متاريس أبواب سجون العقل أم أمام من بلغ صوته الجبال وخرق الأرض مدافعا عن العقل وحرّيّة الرّأي والفكر؟ أقلّب طرفي لا أرى غير صاحب يميل مع النّعماء حيث تميل (3) ... عجبا أحلاوة الكرسيّ أحلى من حلاوة صفاء ذهن المفكّر يوسف الصّديق ؟! عجبا كيف أنّ التاريخ الحالك للكرسي - على مرّ القرون والسّنين منذ الأزل و إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - أفضل ممن احتذى حذو شيخ المعرّة ولم يجعل له من إمام سوى عقله يستشيره في الصّبح و المساء! عجبا كيف يشتري المرء الضّلالة بالهدى و الزّبد بما يمكث في الأرض و السّماء!.. هؤلاء هم حقّا الأخسرون أعمالا والذين ظلّ سعيهم في الحياة الدنيا!.. ففلاسفة الأنوار الذين جاورتهم كفولتير وروسّو ومنتسكيو وغيرهم وألقيت عليهم محبّة منك سيّدي الرّئيس - قد فرّق بينك و بينهم ولوج قصر قرطاج و حلاوة الكرسيّ فنسيت العقل والصّديق و الرفيق. أتدري - سيّدي الرّئيس في قصرك - ما قاله أبو الطّيب المتنبّي لسيف الدّولة في بلاطه؟ : أعيذها منك نظرات صادقة أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم و ما انتفاع أخ الدّنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم (4) (1): طرفة بن العبد (2) + (3): أبو فراس الحمداني (4)أبو الطيب المتنبي كاتب