الجنون خرق لكل نظام، لكل قانون، حالة من التجاوز للمعقول، انفلات من الضوابط والغاء لكل الثوابت وانعتاق من المسلمات. الجنون فعل نفسي وحركية انفعالية كانت قطب رحى العمل السينمائي الذي قدمته فاميليا للانتاج للجمهور بداية من الأسبوع المنصرم. جنون المسرحية فكرة..وجنون الفيلم تناول جماليّ وفلسفيّ للفكرة. نون حرف.. نون ذات شاب أحسّ بوقر الواقع الآسن عليه، شعر بداء يطبق على صدره، تعقدت السبل، سلطت عليه مجموعة من الضغوطات النفسية والاجتماعية فكان مآله التيه، انتابه داء عقلي غيّبه قسرا عن الواقع وولج به دنيا غير دنيانا.. نون المجنون محظوظ لأنه عاش تجربتين: تجربة العقل وتجربة التجرد من العقل، تجربة التحرّر، يلتقي نون هناك خلف أسوار المستشفى العالية بطبيبته التي تنخرط معه في حديث علاجيّ يبلغ أقصاه حين تتمرد الحكيمة على المؤسسة الصحية، تخرق القانون الأخرق الذي ينظر فقط الى نون باعتباره حالة مرضية، قانون يلغي انسانية نون ويتناسى الواقع الأسري الصعب الذي نشأ فيه وجعله يدلف الى المناطق الحمراء نعني حياض اللاعقل التي نقلها الجعايبي بحذق سينمائي كبير وبآليات فنية شديدة التأثير. نون رفض الأب السكير، المغتصب أو لنقل هو تأرجح بين النفور منه والحدب عليه، نون سخط على الأم الخانعة المستسلمة. نون ثار على الاخوة الضائعين المهمشين، المنتشين ببيع الجسد والادمان على الخمرة والمخدرات. نون الجعايبي كان المجنون عفوا العاقل الوحيد في صلب منظومة اجتماعية منحرفة، فاسدة، ضياع نون الفكري كان بفعل ظروف تلغي الانسان في الانسان، ظروف فيها الكثير من الاهانة، ظروف عاشها جيل السبعينات، خبرها مثقف السبعينات أحزان وآلام واختيارات فاشلة قادت البعض الى السجون وحملت آخرين الى خانة الجنون . جيل ضائع وآخر رفض الخضوع ...فانخرط نون في هيجان، كُسي بمنظومة شعرية أرضيتها منور صمادح، فكان الالتقاء بين زمنين: الماضي والحاضر بآلة هي الانفعال وفي رحم اللاممكن تربى نون المجنون. نون الصارخ.. نون الصادق.. نون الرافض.. نون المحب.. ومن هنا كان نون نفسا تائهة.. نون نبراس ألم.. نون نافوس خطر يدّوي، ينذر نون هو رؤية ناجية الزمني في يوميات خطاب فصاميّ.. فعل سينمائي صاغه الثنائي جليلة بكار والفاضل الجعايبي وجسدته أسماء فاعلة هي محمد علي بن جمعة الذي أبهر بحرفيته وانخراطه في عالم الجنون، وجليلة بكار الهادئة المتزنة. أما الضلع الثالث للابداع فجسدته فاطمة بن سعيدان الناطقة بدموعها وبحسرتها على نون ، دون أن ننسى جيلا جديدا اندمج في مدرسة الجعايبي على غرار صالحة النصراوي، عواطف الجندوبي، بسمة العشي، قيس العويديدي وكريم الكافي دون أن نغفل بصمات رؤوف بن عمر، محمد كوكة، رمزي عزيزي وصلاح مصدق. صفوة القول إذن إنّ جنون الفيلم كان عناقا حميميا بين الرمزي والمباشر في السينما ولعل هذا ما يميز الخطاب الفني عند الجعايبي.