قال السيد راشد الغنوشي مؤخرا في منتدى الذاكرة الوطنية حول الحركة الاسلامية في تونس خلال عهدي بورقيبة وبن علي، إن ما يهدد تونس حاليا ليس عودة الدكتاتورية، بل الفوضى و«الصوملة»، وهو طرح أشاطره الرأي فيه وسبق أن عبرت عنه تحت هذا الركن مرارا وتكرارا، اذ أكدت في جملة ما أكدت أنه لا يهم حاليا من يحكم تونس: «النهضة» أو غيرها من الأحزاب، بل ما يهم هو انجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي، وأن المعارضة والمنظمات الجماهيرية (اتحاد الشغل أو غيره) مدعوة الى الابتعاد عن سياسة لي الذراع ومحاولة احراج السلطة، إذ أن هيبة الدولة هي ضمان للجميع. ومن خلال الأحداث المتسارعة والسيئة التي عرفتها بلادنا خلال الأسبوعين الأخيرين، ومن بينها أحداث جندوبة وساقية سيدي يوسف وغار الدماء وسيدي بوزيد، يبدو واضحا جليا أن الأولوية المطلقة حاليا بالنسبة لبلادنا، هي إعادة الأمن وتحقيق علوية القانون. فلم يعد ممكنا بعد كل ما حدث، التدثّر بشعار حرية التعبير عن الرأي لتغطية انحرافات واضحة واجرام لا لبس فيه، واعتداءات موصوفة على قوانين البلاد وارهاب لمواطنيها. إن ما بناه بورقيبة حطم جزءا هاما منه «الزين بابا»، وها أن ما تبقى أصبح مهددا اليوم. وعلى «النهضة» ألا تحبس نفسها، بعد أن أصبحت تمسك بجزء من السلطة، في قوالب جامدة قد تكون فرضتها عليها فترة النضال تحت بورقيبة ثم تحت «الزين بابا» وعسفهما، وأن تتحلى بالشجاعة الكافية للقيام بمراجعاتها الفكرية إزاء «عمل» (l'uvre) بورقيبة وتقييمه التقييم الصحيح. فلئن كانت فترة بن علي تكاد تكون شرا كلها، فإن فترة بورقيبة تداخلت فيها ايجابيات عديدة وسلبيات قليلة أو كثيرة حسب زاوية النظر فقد بنى بورقيبة دولة حديثة وغذى «مفهوم الدولة» في الأذهان والضمائر، وبنى جيلا متنورا متعددا، وهذا بالذات ما هو محل تهديد اليوم، وعلى الجميع ادراك ذلك. فلئن نجحت بلادنا في المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي، بتنظيم انتخابات وتركيز مجلس تأسيسي انبثقت عنه حكومة شرعية، فإن هناك اليوم مؤشرات خطيرة على أننا بصدد افشال المرحلة الانتقالية الثانية وهي الأهم. فبلادنا، أو بالأحرى جزء هام منها يحترق، وإننا نسير لا محالة إذا لم نتدارك الأمر نحو الفوضى بفعل عنصرين هامين، هو ما يسمى «السلفية» أولا، التي تهدد نمط عيش التونسيين برمته وتفتحهم وتسامحهم و«نسبية» نظرتهم الى الحياة والأشياء، ومن بينها الدين. وثانيا، بفعل «كوكتيل» من المصالح المتشابكة المختلفة، نجد فيها حرس النظام البائد من تجمعيين ورجال أعمال فاسدين (المدافعين بشراسة عن امتيازاتهم والخائفين من المحاسبة) من بينها أيضا عصابات المهربين والمنحرفين والمجرمين الذين لا يريدون للوضع أن يهدأ حتى يمكنهم ممارسة انحرافهم وإجرامهم. إن التيار «السلفي الجهادي» يعمل الآن من حيث يشعر أو لا يشعر والله أعلم لفائدة التيار الثاني. فعن أي جهاد يتحدثون، عدا الجهاد ضد مواطنيهم، فإسرائيل وأمريكا والغرب في مأمن منهم فبينهم وبين هذه الأمم «زر»، أي «قرص» باللغة العامية، ففي اليوم بل قبل ذلك بكثير الذي سيصبحون فيه حقا خطرا على هذه الأمم، فإنها قادرة بضغطة بسيطة على زر، محوهم ومحونا معهم من على وجه الكرة الأرضية. ولذلك فكفى استبلاها للآخرين، اذ أن الجهاد الذي يتحدثون عنه، إنما هو وبصفة حصرية موجه ضد مواطنيهم وضد مصالح بلادهم الحيوية.. وها قد بدأ بعد يُحرقها بناره، فأوله ترويع وها قد ذهبنا شوطا هاما في هذه المرحلة وآخره قتل وتفجير، والطريق بينهما قصيرة جدا. إن «النهضة» تجد نفسها اليوم في مفترق طريقين لا ثالث لهما، إما التمهيد للفوضى و«الصوملة» اللتان يخشاهما السيد راشد الغنوشي بغض النظر والتواطؤ، وإما احترام علوية القانون وتساوي جميع المواطنين إزاءه والتصدي بالقانون ولا شيء غير القانون لكل فعل منحرف مهما كان مأتاه، سواء تغلف بالسياسة أو الدين أو لم يتغلف، وعلى «الترويكا» عموما أن تدرك في هذه المرحلة الدقيقة أهمية الإعلام في انجاح المرحلة الانتقالية الثانية، والدور الهدام الذي تلعبه بعض وسائله القذرة، ممن تمعشت من العهد البائد، أو تلك التي ظهرت بعد الثورة، متغذية بالمال القذر للمافيات التي تركها الطرابلسية وراءهم، والتي لا هَمّ لها حاليا سوى التشويش والارباك لإبعاد شبح المحاسبة عنها، وفتح الطريق للفوضى أملا في عودة دكتاتوريتها. وهذا موضوع ثان سنعود اليه بأكثر تعمق قريبا.