الإعلان عن نتائج انتخابات العاشر من ماي الجاري كان مدوّيا بما فيه الكافية، ويمكن القول إنّ حجم الصوت الهائل اخترق أقوى آذان السياسيين صممًا، لكن المفارقة، في جزائر المفارقات، أنّ عدد الاستقالات الحزبية، على مستوى الرؤوس، ظل في حدود الصفر، وتكرّرت العادة القديمة حين تفنّن الكثيرون في سبّ الظلام دون إيقاد شمعة واحدة. عدد الأحزاب الجزائرية ضخم للغاية، وبينها عدد لا بأس به من الأحزاب التي صارت تحمل لقب القديمة أو العريقة، لكنّ زعامات هذه الأحزاب اختارت الطرف الآخر لتسلّط عليه السهام والرماح والسيوف، ونسيت أنها مسؤولة بشكل مباشر عمّا حدث بغضّ النظر عمّا قيل ويقال عن التزوير والتلاعب وقانون الانتخابات وهذا الطرف المؤثّر في قواعد اللعبة أو ذاك. حركة مجتمع السلم، حمس، يصفها الكثير من الخصوم، قبل الأصدقاء، بأنها الأكثر انضباطا، ما يعني أنّها تملك قدرا من التماسك الذي يؤهّلها لتولّي زمام المبادرة وصناعة مفاجأة الانتخابات التشريعية عبر استقالة رئيسها أبو جرة سلطاني بعد إعلان النتائج مباشرة.. لكن المفارقة، في جزائر المفارقات، أن الرجّل، وبعد عدة أيام من الجدل، طلب أو اختار الدخول في خلوة لمدة ثلاثة أيام استعدادا لاجتماع مجلس الشورى الوطني للحركة. كنّا نتوقع موقفا مشرّفا يساهم في إرساء ثقافة وقيم جديدة في ميدان العمل السياسي الجزائري.. وذلك الموقف ليس دعوة الناس للعصيان المدني، حتى يقال إنه فوق طاقة سلطاني وحركته.. إنه ببساطة شديدة: اعتراف الرجل بالإخفاق، مهما كان سببه، والإعلان عن استقالة فورية والاختفاء من المشهد السياسي، ولو لبعض الوقت. نعم.. لقد طلب أبو جرة خلوة، وانعقد مجلس شورى الحركة بعد ذلك دون أن يزحزح أحدا من منصبه، وكأنّ المسؤولية تقع على السلطة وحدها، وهكذا سيكون في مقدور خصوم (الحمسيين) وضعهم في خانة (الصوفية) وثقافة الولاء المطلق، لأن العمل السياسي الحقيقي يعيش وينتعش ويتجدّد عبر تدافع القيادات والأجيال وتغيّر الوجوه والبرامج والاستراتيجيات، خاصة بعد المواعيد والمنعطفات التاريخية، كما هو الحال في الجزائر وذكرى مرور نصف قرن على الاستقلال. ندرك جميعا حجم العقبات المتراكمة أمام أيّ تغيير حقيقي في الجزائر، لكننا أدركنا أكثر، بعد انتخابات العاشر من ماي، مستوى المعارضة وهشاشتها وضعفها السياسي. وإذا كان التغيير الشامل قد تعثّر في هذه الانتخابات، أو هكذا يبدو من خلال الشكل على الأقل، فقد كانت الفرصة مواتية، أمام قيادات الصف الثاني والنّخب الفاعلة في جميع الأحزاب الجزائرية المترهّلة، لاستلام زمام المبادرة والإعلان عن تباشير مرحلة التغيير من خلال الأحزاب قبل السلطة الحاكمة إنها سنوات طويلة سيطرت فيها وجوه من شتّى المشارب والاتجاهات على الواجهة السياسية في الجزائر.. لويزة حنّون، سعيد سعدي، عبد الله جاب الله، أبو جرّة سلطاني، فوزي ربّاعين، موسى تواتي، وأسماء أخرى.. ولأنّ هؤلاء لم يفعلوا شيئا على طريق التغيير المنشود؛ فليتغيّروا هم ويريحونا، ولو إلى حين، من تصريحاتهم وتناقضاتهم وتحالفات الرمال المتحركة التي أتقنها بعضهم أيّما إتقان. إنّ إصرار تلك الوجوه السياسية على البقاء في قمة الهرم دائما، ومهما كان حجم الإخفاقات، يدلّل على أن السلطة والأحزاب سواء في حجم الأمراض والعلل، ولعلّ الأمر أبعد من ذلك، فإذا كانت السلطة تعاني من داء السكّري، فإن المعارضة تعاني من السرطان، وربّما عزفت تلك النسبة العالية من الشعب عن الانتخاب بسبب هذه القناعة، حيث لم يعد هناك فرق بين الطرفين. شكرا لكم جميعا أيها الرؤساء، ودعونا نوافق جدلا على أنكم أبرياء تماما، وأنكم ضحايا لمؤامرات ودسائس وخطط أقوى منكم.. ومع ذلك تحرّكوا بسرعة واختفوا من المشهد وثقوا أن السماء لن تنطبق على الأرض بعد غيابكم. دعوا غيركم يبرهن للشعب على أنّ للأحزاب طروحات وقدرات تؤهّلها لأن تكون بديلا مناسبا للسلطة القائمة؛ وسترون كيف تُولد أحزابكم مجدّدا من أرحام صناديق الاقتراع. الطاهر الأدغم