إذا ارتبط بالتنمية الجهوية فسيصبح الناس في صفوف المدافعين عنه - أعلن الدكتور عدنان الوحيشي في حديث لنا أجريناه معه بعد تعيينه مديرا عاما للمعهد الوطني للتراث عن استعداده للقيام بتحويرات كبيرة في مستوى تنظيم وهيكلة المعهد من أجل استثمار أفضل لتراثنا المادي واللامادي ومن أجل توفير الوسائل الكفيلة بالمحافظة عليه بنجاعة أكبر وصيانته وتحويله إلى مصدر للتنمية للجهات وللبلاد عامة خاصة أن تراث بلادنا يتميز بثرائه وتنوعه ويشهد على تجذّر تونس في التاريخ والحضارة. كما وعد بالقيام بعملية إصلاح جذرية شاملة للقطاع في مستوى التسيير ومناهج التسيير بمعية فريق عمل يضمّ باحثين مختصين في مجالات مختلفة من التراث وقد انطلقوا في الإعداد لذلك.
وبدا المدير العام الجديد في حديثه ل"الصباح" متحمّسا لمهمته في تسيير المعهد والهيكل الذي ينتمي إليه منذ أكثر من عشرين سنة. ضيفنا متحصل على الدكتوراه في اختصاص الآثار الإسلامية من جامعة السوربون وقد تحصل مؤخرا على جائزة الألكسو عن كتابه "الخزف الإسلامي". تحدثنا عن أهم مشاغل القطاع وعن السياحة الثقافية والفساد الذي تفشى في قطاع التراث وغيرها من المسائل الأخرى ذات العلاقة بالميدان فكان الحوار التالي: كان قطاع التراث بعد 14 جانفي وما كشف عنه من تجاوزات من بين أكثر مواطن الفساد التي طالتها معاول وآليات فساد النظام البائد, حسب رأيك هل استفاد هذا القطاع مما حظي به من اهتمام في الداخل والخارج رغم تصاعد الأصوات المنادية بإصلاحه تشريعيا وتنظيميا وهيكليا ؟ صحيح أن هذا القطاع تعرض إلى عمليات نهب وسرقة مدبرة ومتاجرة غير مسبوقة من قبل عصابات أو أفراد تمثلت في الانتهاكات المدبرة التي تعرضت لها الآثار والمتاحف والمخازن. وقد كنت ضمن نقابة الباحثين بالمعهد التي تحركت بقوة في مسعى لكشف التجاوزات الحاصلة وتعرية حقيقتها. علما أنني سبق أن قمت بمحاولات لفضح ممارسات الفساد بالمعهد الوطني للتراث صحبة بعض الزملاء الباحثين بالمعهد الغيورين على التراث الوطني عن طريق وسائل الإعلام قبل سقوط النظام ولكن لم نجد الآذان الصاغية من سلطة الإشراف بل كان مآلنا التعرّض إلى تضييقات من إدارة المعهد وتم إبعادنا عن النشاط. ولكن تبين بالمكشوف أن هذا القطاع كان على درجة من الأهمية. فهو بمثابة "الكنز" الذي أدار أعناق وأيادي عائلة الرئيس المخلوع بمساعدة خدومين من سلطة الإشراف. والحقيقة التي لا يجب تغييبها أنه حظي بمحاولات جادة لإصلاحه بعد أن تم سن قانون يجرم السرقة والإعتداء على التراث فضلا عن استعادة بعض القطع الأثرية المسروقة من القصر الرئاسي بقرطاج أو من منازل أصهار الرئيس الفار في انتظار حسم القضاء في الملفات والقضايا المرفوعة في ذات الشأن. إلا أن ما يجب قوله هو أن القطاع لا يزال في حاجة إلى مزيد العمل والتكثيف من خطط الإصلاح. هل يعني ذلك أن تعيينك على رأس إدارة المعهد الوطني للتراث يدفعنا لانتظار برنامج إصلاحي جديد شامل وكامل ومختلف؟ أعتقد أنه من قبيل المبالغة الحديث عن برنامج إصلاحي كامل ولكني جاد في مهمتي استجابة لمسعى سلطة الإشراف في تغيير المعهد وخطة عمله على نحو ننهض بدوره على مستوى ثقافي تراثي أو وطني تنموي. لذلك أنا بصدد الإعداد للقيام بتحويرات كبيرة في صلب المعهد وسأدخل في عملية إصلاح جذرية شاملة تطال مجال الإدارة ومناهج التسيير. وأنا منكب رفقة عدد من الباحثين على وضع استراتيجية عمل جديدة للمعهد ستشمل مختلف مستويات البحث العلمي والمتاحف وتهدف في مجملها إلى الحماية والمحافظة على التراث وتثمين توظيف قطع التراث المادي واللامادي في كامل جهات الجمهورية على غرار المدن القديمة التي يمكن أن تتعرض إلى السرقة والتهميش وخطر الاندثار. وهل تعتقد أن الموارد البشرية والآليات اللازمة متوفرة لتحقيق ذلك؟ نحن نعوّل في توجهنا الإصلاحي على الاعتماد على الكفاءات المختصة التابعة للمعهد. وأستغل هذه المناسبة لأذكر أن الباحثين في التراث في مختلف الاختصاصات التابعة للمعهد تحظى بصيت واسع على مستوى عالمي مقارنة بما هو موجود من كفاءات في البلاد العربية. وسنعمل على تدعيمها من خلال فتح المجال لأصحاب الشهائد العليا في اختصاصات ذات علاقة بالتراث حتى نحقق النتائج المرجوة. لذلك سنطالب بالترفيع في الميزانية المخصصة لمواطن الشغل في مختلف الاختصاصات حتى لا تقتصر المهمة الإصلاحية على تشريك الباحثين دون سواهم أو دعم بحوث الدكتوراة فقط. لوجود مهن تراثية اندثرت وأخرى أصبحت مهددة بالاندثار مثلا مهنة "نقش حديدة" التي تهتم بنقش وترميم الحديدة أو أنواع أخرى من الخشب المزوق بالألوان والمنقوش أو ما تعلق بالخزف القديم وغيرها من الصناعات والحرف التقليدية الأخرى إضافة إلى الافتقاد إلى اليد العاملة المختصة في مثل هذه الاختصاصات. تراثنا المتنوع والثري لم يقع إلى اليوم استثماره استثمارا مفيدا في مشاريع تنموية خاصة بالجهات التي تزخر بالآثار والمعالم التاريخية هل لديك مشروع في هذا الإتجاه, أي يتوجه إلى مسائل التنمية والتشغيل؟ أنا حريص من موقعي كباحث في التراث أولا وكمدير للمعهد الوطني للتراث ثانيا على إثبات أن التراث الوطني ليس ذلك القطاع الذي لا يهتم به سوى الباحثين في الميدان فقط وإنما هو ميدان مفتوح على عديد المجالات الحيوية وأنه شأن عام يهم كل تونسي باعتباره ليس ملكا للدولة بل هو ملك لنا كتونسيين ورثناه عن أجدادنا بعد تراكمات حقب تاريخية وحضارية. وأعتقد أن هذا الأمر يفرض علينا ضرورة أن نعمل جاهدين على حمايته وحفظه من أي سرقة أو تعد. وإذا كان المقصود بالشمولية هو الخوف من هاجس المطلبية والتشغيل والتنمية داخل الجهات أقول أن قطاع التراث قادر على دفع عجلة التنمية والاقتصاد في كامل ربوع البلاد من خلال المراهنة على المنتوج التراثي التقليدي بتحويله إلى منتوج سياحي أو بيئي. وذلك بمراعاة الخصوصية الحضارية والجغرافية والبيئية لكل جهة خاصة تلك المنتصبة على مقربة من مدن قديمة أو مواقع أثرية وبالتعاون مع وزارات وهياكل مختلفة يمكن وضع برامج تنموية كبرى وأذكر على سبيل المثال مدينة سجنان ببنزرت المعروفة بالخزف النسائي ذي الشهرة العالمية أو عديد المناطق بولاية القصرين أو بغمراسن وتطاوين ومطماطة وسيدي بوزيد وسليانة وصفاقس وسوسة وزغوان والقيروان وغيرها من المناطق التي تتوفر على منظومة تراثية وأثرية هامة. وذلك بتشريك المجتمع المدني وفتح المجال أمام باعثي المشاريع الصغرى والمتوسطة في كل جهة حسب خصوصيتها التراثية. وحسب رأيي إذا ارتبط التراث بالتنمية الجهوية فإنه بالإمكان إعادة الثقة للناس ليصبحوا في صفوف المدافعين عن هذا القطاع. السياحة الثقافية مسألة تحدث عنها الكثيرون في مختلف الأوساط والمواقع ولكنها ظلت حبرا على ورق تقريبا فهل ستحظى باهتمام المعهد واضفاء صبغة عملية من خلال وضع برامج ومنظومة مشجعة لها؟ منذ التسعينات ظلت السياحة الثقافية موضوع يتردد كثيرا على المسامع وفي دوائر القطاع ولكنها بقيت في مستوى القرار والتفعيل مجرد شعارات. أما حاليا فهناك مساع جادة لتدعيم هذا المجال بعد أن تأكد الجميع من جدواه. وقد تم مؤخرا بعث لجنة مشتركة بين وزارتي الثقافة والسياحة وهي بصدد بحث ودراسة إمكانات النهوض بهذا المجال الحيوي خاصة أن السياحة الثقافية تختلف عن السياحة الشاطئية لأنه لا يمكن أن ننشط السياحة الثقافية في فنادق على السواحل بل وجب مراعاة خصوصية كل جهة وتشريك أبناء الجهات حتى يكون لها بعد اجتماعي واقتصادي. ما هي إذن الملفّات العاجلة حسب رأيك التي تتطلّب الاهتمام وإعادة النظر في أقرب الآجال في انتظار استكمال البرنامج الإصلاحي في المستقبل؟ إضافة إلى التسيير اليومي أقوم بالتّنسييق مع مختلف الجهات مع فريق من الباحثين من أجل إرساء استراتيجية عمل على مدى متوسط وعلى مدى أطول من ناحية السياسة المتحفية وبعث متاحف جديدة بإعطاء الأولوية في ذلك إلى الجهات الداخلية على غرار الوسط الغربي والشرقي والجنوب الغربي إلخ.. إضافة إلى إقامة المنتزهات الأثرية وكل ما يتعلق بالربط بين السياحة والتراث إلى جانب تدعيم استراتيجية البحث وتعزيزها بشريا. وذلك بوضع خطة بحث علمي تتناول ما قبل التاريخ تضم باحثين ومهندسين من الشباب لأنها لم تكن متوفرة بالمعهد من قبل. فوضع أسس سياسة ثقافية تعد من أوكد المسائل بالنسبة للمعهد يمكن أن تؤسس لبرنامج عمل طويل المدى. كما أن مراجعة القوانين المنظمة للقطاع وعمل الهياكل التابعة له مسألة سيعمل المعهد على المضي فيها من أجل إدخال تعديلات طبعا بعد دسترة القوانين المتعلّقة بالتراث ووضع حد للتجاوزات الحاصلة. هل تعني بذاك أن القطاع عرف تجاوزات في ظل تونس الجديدة؟ أبرز تجاوز عرفه التراث بعد اسقاط النظام البائد وسجله المعهد الوطني للتراث ونددت به النقابات التابعة له البناء الفوضوي وما تسبب فيه من أضرار بالآثار والتراث. حصل ذلك مثلا في قرطاج وبعض المناطق المجاورة لها مما شوه المواقع الأثرية. لذلك نحن نحاول أن نعيد "ماكينة" التراث للعمل ومنح المعهد المكانة والموقع الأفضل الذي يجب أن يكون فيه. اتفاقيات الشراكة الثقافية التي تجمع بين تونس وشركائها والمتعلقة بالخصوص بحماية التراث الحضاري ألا تحتاج لمراجعة؟ هناك عديد الاتفاقيات الدولية التي تربط تونس بالبلدان والمنظمات المهتمة بالحوض الشمالي للمتوسط. وأعتقد أن هذه الاتفاقيات فسحت المجال للخبرات التونسية لتنفتح وتحتك بمثيلاتها من البلدان الأوروبية والأمريكية وغيرها. وما يجب الإشارة إليه أن بلادنا تتوفر على مدن قديمة ومواقع ومعالم أثرية تعد أضعاف ما هو موجود بإيطاليا وخاصة اسبانيا التي تستقطب يوميا آلاف الزوار للمدن القديمة التي تعود إلى الحضارة العربية الإسلامية كقرطبة وغرناطة. لذلك فبإمكاننا أن نستفيد من مكاسبنا في هذا الإطار وهو ما يتطلب إحداث نقلة نوعية في فحوى التعامل والتعاون وتفعيل الاتفاقيات الدولية.