مشهد "غزاوي" مريب، وموقف عربي، شعبي ورسمي، أكثر ريبة، وصمت دولي قد يكون مفهوما لكنه غير مبرر.. تلك هي أبرز استنتاجات أسبوع من الحصار وحالة الخنق الذي تتعرض له مدينة غزة الفلسطينية تحت وابل من الصواريخ الاسرائيلية المصدر، الاميركية الصنع، وضمن أحد أوسع عمليات قصف واغتيالات تتعرض لها هذه البقعة من الوطن الفلسطيني، سليل اتفاقات أوسلو البائسة، والتي لم تزد الشأن الفلسطيني إلا بؤسا وخوفا من المستقبل، بعد أن استفرد به الكيان الصهيوني.. لم يذهب أولمرت، رئيس الوزراء الاسرائيلي إلى استخدام هذا الشكل من إرهاب الدولة، إلا بعد أن تلقى الضوء الاخضر من الرئيس الاميركي، الذي يتهيأ لمغادرة البيت الابيض بعد بضعة أشهر من الان، وفي قناعته ورغبته أيضا، أن يخلّد اسمه في تاريخ عملية "الابادة البطيئة" التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، على حدّ تعبير أحد الكتاب العرب.. كان الشعب الفلسطيني بالامس القريب أعزلا من السلاح، وبات اليوم أعزلا من الاصدقاء والاشقاء، بعد أن تكالبت عليه الاعداء من كل حدب وصوب، حتى من الجغرافيا العربية ذاتها، وما الصمت العربي إزاء ما يجري في غزة، إلا شكل من أشكال هذا "العداء" الذي يكاد يطبق (بكسر الباء) على غزة، في أبشع صورة انتهاك لحقوق الانسان وللقوانين الدولية ولشرعية الاممالمتحدة، التي ما يزال البعض يعتبرها عنصر توازن مهم في العلاقات الدولية، على الرغم مما أصاب هذه "الشرعية الدولية" من "خروج على السكة" ودخولها نفق القطبية الواحدة، التي دمرت أكثر من دولة وكيان، وتكاد تتلف أكثر من نقطة على خريطة العالم، ضمن عناوين جديدة براقة وجذابة، بينها الديمقراطية والتنمية والاصلاح السياسي والتعاون الدولي وحتى "المصالح الاستراتيجية للعالم"، مع أن المقصود بذلك طبعا، مصالح الولاياتالمتحدة الاميركية في المقام الاول، ومستقبل هذا الوليد المدلل، تل أبيب.. ولعل الغريب فيما يحصل في غزة، هو حديث البعض عن "أخطاء حركة حماس"، وانقلابها على الشرعية الفلسطينية، وعدم قراءتها الواقع الدولي بدقة وواقعية وبراغماتية وب "روح وطنية عالية"، على حدّ تعبير البعض من المحللين وذوي الرأي الحصيف.. ومعنى هذا إذا ما كنت أحسن الفهم أنه لو أعادت "حماس" قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، لما تعرض القطاع إلى ما يتعرض له منذ عشرة أيام على الاقل! ولكانت الظروف "سمنا على عسل مصفى" في غزة، ولما حصلت أزمة الدواء والغذاء والبترول والبنزين والخبز أيضا، ولكان أهل غزة ينعمون في بحبوحة من العيش الرغيد، من دون أي أدنى "إزعاج" إسرائيلي مهما كان لونه.. وهل ارتاحت غزة ليوم واحد منذ صعود حركة حماس في الانتخابات البرلمانية الماضية؟ لا شك في أن حماس أخطأت بشكل أو بآخر، لكنها أخطأت مع حكومتها وشعبها، وبالتالي كان يفترض أن يعالج هذا الخطأ فلسطينيا وربما عربيا في أسوإ الحالات، أما أن تعاقب مدينة بأكملها، ومواطنون، بينهم الرضع والشيوخ والاطفال والنساء والحوامل والمرضى، بل أن لا يجد الشهداء الكهرباء لكي يستقر حالهم في ثلاجات الموت لبضع ساعات إلى حين دفنهم، فهذا ما يعني أن الموضوع لا يتعلق فقط بحماس أو بمحاولة الضغط عليها لكي تكف عن إطلاق صواريخها، باتجاه تلك المستوطنات الخارجة عن القانون والشرعية الدولية وتقارير جهات حقوقية عديدة في العالم.. إننا أمام مشهد أكثر تعقيد من مجرد اختزال الموضوع في خلاف حمساوي فتحاوي، أو خلاف بين حماس وإسرائيل.. ما يجري في غزة منذ فترة، يعكس قراءة إسرائيلية لمشهد إقليمي تريد تل أبيب أن تكون لاعبا رئيسيا فيه، ورقما غير قابل للتعديل.. إنها شكل من أشكال الالتفاتة إلى مصر، ومحاولة "خنقها" بحالة فلسطينية متوترة، خصوصا وأن غزة تمثل عصبا دقيقا ضمن ما يعرف ب "إستراتيجية الامن القومي المصري".. وهي محاولة لتأجيل أي حل في مفاوضات السلام التي انطلقت بثوب جديد ممزّق، لا يصلح "للستر ولا للفهلكة"، كما يقول الاخوة المصريون، سيما وأن حكومة أولمرت دخلت مرحلة التسويق الانتخابي للاستحقاقات البرلمانية القادمة، وهي تريد بذلك الالتفاف على الخريطة السياسية المتطرفة التي تتلذذ بعملية الابادة البطيئة هذه للفلسطينيين، ضمن نوع من المغازلة الاولمرتية للكيانات المتطرفة في الساحة الاسرائيلية.. ويأتي التغوّل الاسرائيلي، الذي يستفيد حقيقة من حالة عربية رسمية غير مسبوقة من الوهن و"سياسات الانا" ومنطق "المصالح الوطنية"، في سياق محاولة استفزازية لسوريا وإيران من جهة ثانية، باعتبارهما "الشوكة" المخيفة في حلق تل أبيب، ونقطة السواد الوحيدة في اللوحة العربية من منظور إسرائيلي صرف.. وربما من الاسف أن يلاحظ المرء، بأن ما يجري في غزة، يشكل اختبارا للقيادة الفلسطينية الراهنة، التي تبدو في أشدّ حالات الارباك حاليا، الامر الذي تعكسه مواقف الرئيس محمود عباس وهو يكتفي بالتنديد وبعث إشارات يتيمة بكون الحديث عن السلام في هذا الظرف بالذات، أمر غير ذي جدوى، وكأن إسرائيل ترغب في السلام أصلا.. ولا شك أن ما هو غير منطوق في الخطابات والتقييمات السائدة، هو أن الحالة الجديدة التي خلقتها إسرائيل في غزة، تعدّ جزءا من أجندتها وأجندة الولاياتالمتحدة في علاقة بموضوع مكافحة "الاصولية الاسلامية المتشددة"، التي ترى إسرائيل أن حركة حماس، واجهتها المعلنة، وبالتالي فإن ضربها هو إضعاف لحالة أصولية أعم في المنطقة.. هل نحن أمام معادلة جديدة إذن؟ نعم.. نحن إزاء معادلة جديدة، لكنها إسرائيلية المنبت والهوى.. فثمة رغبة إسرائيلية في مراكمة وضع سياسي وأمني عصيب في المنطقة، ليس من أجل التحكم في السقف المطلوب من إسرائيل فقط، وإنما أيضا لخلق حالة ميئوس منها يكون فيها كل "حل" للسلام أو ما شابهه، أمرا مرحبا به عربيا وفلسطينيا ودوليا، بل تكون تل أبيب "حمامة وديعة" وإن جاء هذا الحل ضمن أفق بعيد.. لكن مراكمة وضع متفجر، سيكون بمثابة ألغام قابلة للانفجار في أي آن وحين، قد تتضرر منه المنطقة، أي نعم، ولكن تداعياته ستمس الدولة العبرية بالضرورة، و"من يبصق على النخل، لا يسيل لعابه إلا على وجهه" كما يقول المثل العربي القديم..