شعار جميل ما في ذلك شك، وعنوان مثير لكل مترشح لسباق الانتخابات المرتقبة في أعقاب الثورة ولكن الأهم هل أن السؤال الذي يطرحه الشعار سيظل قائما مع كل الحكومات مستقبلا، كما في مختلف الديمقراطيات العريقة، أم أنه سيكون موضوعا للمرحلة الانتقالية بعد الثورة التي لا يختلف اثنان في أن وقودها كان الإحساس بالظلم والتهميش والرغبة في القطع مع كل مظاهر الفساد والاستبداد؟. ليس غريبا بالمرة أن الامم التي استطاعت التحكم في ظاهرة الفساد ومنع انتشاره وفرضت المراقبة والمحاسبة على مختلف أجهزتها هي الدول الأكثر رخاء وتطورا في العالم وأبرز مثال على ذلك الدول الأسكندنافية. من هذا المنطلق فإن الشعار -الذي كان محور اللقاء الذي احتضنته تونس أول أمس بالتعاون مع الاممالمتحدة- شعار مغر ويمكن أن يستقطب أصوات أولئك الناخبين الحالمين ممن يراهنون على امتداد ثقافة المساءلة والمحاسبة السائدة في الانظمة التي ارتوت جيلا بعد جيل بالديمقراطية، إلى دول الربيع العربي وهي التي أنهكها الفساد وأثقلت كاهلها ظاهرة استغلال النفوذ وعقلية رزق» البيليك« وخيانة الامانة التي كانت وراء منح الكثيرين ما لا يملكون إلى من لا يستحقون، لا لشيء إلا لغياب المحاسبة والمراقبة وانعدام الضمير.. ولو أننا حاولنا البحث على شبكة الانترنت عن المسؤولين في العالم العربي الذين آثروا الاستقالة بسبب تورطهم في قضايا أخلاقية أو مالية وسياسية فلن نعثر على ما يمكن أن يقدّم لنا إجابات أو تقارير شافية في هذا الشأن، ليس بسبب غياب ظاهرة الفساد عن مجتمعاتنا أو انتصار الضمير المهني على كل أنواع الممارسات غير الشرعية في مؤسساتنا وإداراتنا ولكن بسبب افتقارنا لثقافة المساءلة والمحاسبة التي استنزفت الثروة الوطنية وسمحت بتحويل ثروات الشعوب إلى قصور فاخرة أو نقلها إلى الأرصدة الخاصّة للحكام في البنوك السويسرية أو غيرها. ولكن في المقابل لو بحثنا عن شبكة الأنترنت عن قائمة المسؤولين في العالم الحرّ الذين دفعوا كرها أو عن قناعة إلى الاستقالة فإنك قد تستغرب طول القائمة التي لها أول وليس لها آخر، والطريف أننا سنجد ما يثير الضحك والسخرية اذا ما تطلعنا إلى تلك الأسباب التي أذلت المسؤولين ودفعت بهم بعيدا عن السلطة. ففي بريطانيا اضطرّ وزير لتقديم استقالته بسبب تهربه من تسديد مخالفة تجاوز السرعة، وأقيل وزير الدفاع البريطاني أيضا من كل مسؤولياته السياسية والحزبية بعد الكشف عن تزوير في رسالته الأكاديمية وتعمده نسخ مقاطع من الأنترنت أضافها إلى البحث الذي قام به. وفي ألمانيا اختار الرئيس الألماني بدوره التخلي عن منصبه بعد أن فقد ثقة الرأي العام وسمح لنفسه باقتناء مسكن بقروض ميسّرة. ولا تتوقف الأمثلة عند هذا الحدّ، ففي السويد استقالت وزيرة التجارة لأنها تجرّأت واستعملت بطاقة حكومية لاقتناء أغراض خاصّة لم تتجاوز قيمتها عشرة يورو وهو ما كلفها منصبها وأثّر على مسيرتها السياسية نهائيا.. استغلال النفوذ يبدأ عندما يسمح موظف لنفسه بمدّ يده إلى ما لا يحق له مهما كان بسيطا أو غير ذي قيمة لأن -وبكل بساطة- من قبل بأخذ قلم بغير وجه حق يمكن أن يقبل لنفسه غير ذلك دون أدنى إحساس بالذنب.. والمثل الصينيّ يقول أن من يسرق بيضة يسرق بقرة.. و لعله من المهمّ أن ندرك ونحن في هذه المرحلة الانتقالية أن أصحاب الأيدي البيضاء والنفوس المترفعة عن كل مظاهر الكسب والثراء غير المشروع هم في خدمة المصالح الشعبية.. كما أنه من المهم أن ندرك أن القانون في الديمقراطيات العريقة لا يميز بين مسؤول صغير وآخر كبير، ولا يفاضل بين ابن الوزير وابن عون البلدية عندما يتعلق الأمر بمخالفة القوانين، ولا بين رئيس الجمهورية وسائق رئيس الجمهورية.. وقانون المساءلة يفرض على كل من يتحمل مسؤولية سياسية أو منصبا إداريا الكشف عن ممتلكاته، قبل وبعد مغادرة منصبه، وفي ذلك ضمان له وللثروة الوطنية، ولاشك أن الأهم من كل القوانين والدساتير أن تتغير تلك العقليات المتصلبة، ويبدأ كل فرد -أيّا كان موقعه- بمحاسبة نفسه قبل أن يأتي عليه وقت يخضعه فيه الآخرون لحساب قد لا يكون يسيرا...