مواطن أنا، أعيش تحت سماء تونسنا وفوق تربتها في حي سكني شوارعه و أزقته بلا أسماء آكل الطعام وأمشي في الأسواق. حياتنا اليومية داخل الأسرة ليست على وتيرة واحدة، نصارع الحياة ونسل الرغيف بعرق الجبين وكد اليمين وعادة ما يدور النقاش بين زوجتي و الأبناء أو بيني وبينهم ليصل في بعض الأحيان إلى جدال عنيف فتراني أتّخذ موقفا أحسم به الأمر وأغلق به باب النقاش فتقبله زوجتي على مضض وامتعاض وألاحظ ذلك جليّا على وجهها والعكس كذلك صحيح فقد تقرر هي أشياء لا أكون مرتاحا إليها و لكني أتقبل ذلك .نفعل ذلك، و لعل الكثير من العائلات تنتهج نفس السّلوك، للحفاظ على هيبة الوالدين في عيون الأبناء و حتى نتجنب قدر المستطاع الاختلاف أمامهم خشية أن يتحول ذلك إلى شجار و ربّما عراك و أن تصدر من أحد منا كلمة نابية و موجعة أو في غير محلها يكون لها الوقع السيئ على تربية الأبناء وتكون سببا في عواقب وخيمة في مستقبل الأيام. فالانسجام بين الوالدين و الاتفاق في المواقف يعطي الأبناء ثقة في النفس و تنشأ شخصيتهم سوية و لو يفتعل ذلك أمامهم وبالتالي تحافظ الأسرة على تماسكها. ولكن كيف هي أحوال أبناء تونس و بماذا تراهم يشعرون؟ وكيف مستقبل الحياة أمامهم؟ هل هي القتامة تسيطر على نفسهم أم هو الكمد و الغم يملأ صدورهم ؟ أم يصحّ عليهم قول الشاعر: «ربّ يوم بكيت فيه و لمّا صرت في غيره بكيت عليه» بالأمس كانوا ضجرين غير مرتاحين لأن قطار البلاد لم يرس فوق السّكة بل عرباته متناثرة هنا و هناك كل واحدة تسير على هواها، متى حلا لها السير فعلت و متى عن لها التوقف فعلت. وما أصبحوا عليه اليوم أتعس و أفظع، فقد صار واضحا وضوح الشمس في منتصف النهار لمن كان يكابر أن لقطار البلاد رأسان. الواحد يراوغ الآخر، الواحد يتحين الفرصة ليتحرك و يصول ويجول في غياب الآخر أو ربما في غفلة من الآخر أو ربما حينما يكون الآخر في نوم عميق أو يمتع النفس في إجازة أسبوعية وإذا بالدنيا تقام و لا تقعد من حوله فيبهت الذي «نام على أذنيه». بالأمس القريب طالب الكثير من التونسيين باستقالة وزير التربية معلّلين طلبهم بما يقع في البلاد المتقدمة و الأنظمة الديمقراطية التي يحترم فيها الوزير نفسه قبل الاستماتة من أجل البقاء في كرسيّه. الوزير تراه الآن يتنفّس الصّعداء بعد أن أضحى تسرّب مادة العربية في امتحان البكالوريا أمرا أكثر من الهيّن. نقطة سوداء في محيط أمام سقوط هيبة رئاسة الجمهورية سقوطا لم يسجل بالنقاط شوطا بعد شوط و إنما هو سقوط بالضربة القاضية يخرج فيها المهزوم كالمغشي عليه و يودّ لو يباعد بينه و بين شعبه بعد السماء عن الأرض...إنما حصل فجر الأحد 24/6/2012 طعنة بامتياز لا في ظهر رئيس الجمهورية فقط و إنما في ظهر كل التونسيين و إهانة شنيعة لدماء الشهداء و سخرية لاذعة من أوجاع الجرحى الذين طردوا عنهم الكرى فطال ليلهم و طال عناؤهم. طعنة توقظ فينا جراحا ساكنة ليلا نهارا قال فيها شاعرنا الكبير نزار قباني: « ليس غريبا علينا اختيال الصحابة والأولياء فتاريخنا كله محنة وأيامنا كلها كربلاء» وهي تؤكد مرة أخرى أن من علقت بهم الأدران لا يستطيعون إلى غسلها سبيلا. تسليم البغدادي و كثير من البيوت التونسية تغط في نوم عميق بعد سهرة فرحة النجاح بأحد أبناء الأسرة بشهادة البكالوريا، بعد عناء ليتناسوا و لو لسويعات هموم الحياة من غلاء في الأسعار و بطالة تزداد و حريات تغتصب و عصافير سود في الأفق. تسليم البغدادي تعدّ على قيم سمحة وعادات و تقاليد نباهي بها وتباهي بنا. فنحن أحفاد السموأل ،وما أدراك ما وفاء السموأل ،ونحن أحفاد الحطيئة المنشد في ميميته الشهيرة : «يا أبتي اذبحني و يسر له طعما يظن لنا مالا فيوسعنا ذما» تسليم البغدادي رسالة تقول بصريح العبارة «اشربوا ماء البحر». تسليم البغدادي يضرب عرض الحائط الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية. وقد ذهب فيه البعض أنها مسرحية وتقاسم للأدوار. بهذا الكلام أيضا و بهذه القراءة أيضا وبهذه التحاليل لا يخفف من وقع الصدمة على الشعب التونسي الحر الأبي. فهذه القراءة إذا أثبتتها الأيام تكوي جبهة و جبين و ظهر سيادة رئيس الجمهورية و يأتي هنا المثل العربي مدويا لا يخشى في الحق لومة لائم «من مدح وذم كمن كذب مرتين». إن ما حصل يوم الأحد 24/6/2012 هو وصمة عار في تاريخ الحكومة المؤقتة و استخفاف برئاسة الجمهورية لا ينطبق عليه إلا ما جاء في مثلنا الشعبي «من يراك يا زميطة نهار العيد». و ما على الشعب التونسي إلا أن يكون في حالة استنفار إذا لم يتفاعل ممثلوه في المجلس التأسيسي مع هذا الحدث الدائس على البلاد و العباد و لم يقوموا بما يتطلب من إزالة للعار فيعيد مرة أخرى (الشعب يريد إسقاط الحكومة). بقلم: مصدّق الشريف*