ما كان للتونسيين أن يدفعوا بن علي إلى الهروب لولا استجابتهم يوم14 جانفي 2011 لقرار الاتحاد العام التونسي للشغل الداعي للإضراب العام بالعاصمة. ما كان لتلك الجماهير الغفيرة أن تحتشد في ذلك الشارع الرمز لو لم تكن النفوس مستعدة للتضحية من أجل التغيير. ما كان للتونسيين أن ينعموا الآن بشيء من الحرية لو بقوا في بيوتهم آمنين مطمئنين. ما كان لأحد أن يتوقع الانهيار السريع و المفاجئ لنظام مكن نفسه من كل أنواع القمع و الترهيب مما جعل بعضهم و هم للأسف كثر، يمكثون في منازلهم يرقبون المشهد من بعيد و شعارهم الترقب ثم الانقضاض. الآن، هؤلاء الذين بقوا في بيوتهم ينتظرون هم الذين يجنون الثمرة ، أما صناع الثورة فقد لعبت الأقدار ضدهم و انطبق عليهم المثل العربي» رب ساع لقاعد». مضى أكثر من عام ونصف عن ذلك التاريخ الذي وهمنا جميعا أننا ودعنا فيه نظاما أحالنا إلى كائنات ضعيفة جبانة. هذه المدة شهدت خلالها الساحة السياسية انقلابا تاما غير أنه لن يكون أبدا في صالح عموم التونسيين التواقين للحرية. رئيسان و حكومتان انتقاليتان ، أولاهما ترأسها شيخ في الثمانين، هو من أنصار بورقيبة..و هذه كانت من أعاجيب هذا الزمن الذي لا يزال على قبحه و رداءته. لقد قبرت الثورة يوم ترأس هذا الشيخ أول حكومة في زمن الثورة. أية ثورة هذه التي تعيد انتاج النظام القديم بأساليبه ؟ اليوم يتكشف الوضع أمام أعين التونسيين واضحا بينا . و أخشى أن يكون قد فات الأوان للتخلص من الشرك الذي وقعنا فيه لبساطتنا و غبائنا. نعم نحن بسطاء و متسامحون جدا وأغبياء لأننا أفسحنا المجال لرجل من رجال النظام القديم أن يحكم بعد الدماء و الجروح. لنعترف بما اقترفناه من أخطاء. إن ما يحدث الآن هو لا شك نتيجة تسامحنا و تراخينا. اليوم يجد التونسيون أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما . فإما أن يختاروا أزلام النظام القديم و إما أن يناصروا حركة لم نر أعضاءها في الشوارع زمن الاحتجاجات. المعركة بين التيارين أصبحت مكشوفة و عموم التونسيين الذين كانوا وقود الثورة يتفرجون في لوعة وحرقة وحنق. نحن نخشى أن يعرف التونسيون ما عرفه أهل مصر في الانتخابات الرئاسية. لقد وجد المصريون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر وعليهم بذلك أن يختاروا أفضل الشرين. لقد ألفوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، فساد الغم و عم اليأس و الإحباط رغم ما عانوه وما تكبدوه من ضنى و شقاء من أجل بناء دولتهم الحديثة القائمة على الديمقراطية و العدل. لقد شعروا بأن تعبهم و نضالاتهم ذهبت سدى و بدا لهم بأنهم يحاربون غيلانا عظيمة ذات رؤوس متعددة. هم الآن أشبه بشخصيات القصص الخرافية القديمة حيث يخوض المرشحون للفوز بيد الأميرة الحسناء مغامرات تلو المغامرات فيكون مآلهم الهاوية السحيقة إلا واحدا هو من سيحصل على مفاتيح الجنة بفضل مكره و « حكمته» وحظه الحسن. السباق نحو البرلمان و قيادة البلاد في مرحلة ما بعد الدستور الجديد « دستور الثورة» يجيء في سياق تاريخي خاص بعد احتجاجات زعم معظم الفاعلين السياسيين أنها ثورة. هذا السياق التاريخي أو هذه اللحظة التي صنعت صنعا كانت ثمرة جهد فئة من الناس نزلت إلى الشوارع متكبدة عناء شديدا في مواجهة آلة من أعتى آلات القمع في تاريخنا المعاصر . لابد لهذه اللحظة أن تفرض قانونها و تحافظ على ألق الثورة و حيويتها. لا يمكن لتونس ما بعد الثورة أن يحكمها رهط من حراس النظام القديم إذا أريد فعلا التأسيس لسلم اجتماعية تساهم في رقي البلاد و ازدهارها. ما حدث في الشيلي وفي رومانيا يمكن أن يكون درسا و موعظة. الايطاليون جرموا الفكر الفاشي و الألمان جرموا الفكر النازي و الرومانيون أثبتوا لنا أنه لا يمكن التصالح مع أزلام النظام القديم بدون محاسبة وكشف الحقيقة. وحتى لا يقع التونسيون في ما وقع فيه إخوتهم بمصر الشقيقة و هو أن يخيروا بين الهاوية أو فم الغول ، لابد لقوى الثورة و أحزاب المعارضة أن تلتقي دون حسابات سياسية خرقاء تزيد من تفتت المفتت وتجزئة المجزأ. لا بد للمعارضة أن تقف وقفة رجل واحد إذا أرادت أن تكون فاعلة دون الوقوع في مطبات التحالفات المشبوهة التي لن تزيد الطين إلا بلة . ضعف المعارضة التي يؤلمني وضعها سببه بلا شك انقسامها و تفككها و جريها وراء السلطة. ضعفها هذا دفعها إلى التحالف مع أزلام النظام القديم مما عمق أزمة الثقة بينها و بين التونسيين الذين هجروا من جديد عالم السياسة لما رأوه من تلاعب و استبلاه. لا يزال أمامنا بعض الوقت لتدارك ما فات. لتفهم المعارضة أن التحالف مع التجمعيين هو تحالف مع قوى الردة ولن يغفر التونسيون لها هذه الخطيئة الكبرى. لتترك للشعب إذن إمكانية الاختيار .