لم نتوقف يوما منذ ثماني سنوات وهي المدة التي مضت على وفاته، ولا كثيرون غيرنا عن التأكيد بأن الزعيم ياسر عرفات رحمه الله لم يمت ميتة طبيعية، بل مسموما، فالتحقيقات التي توصل إليها مؤخرا معهد سويسري ونشرتها قناة «الجزيرة» الإخبارية لم تأت بجديد وكانت بمثابة من فسر الماء بالماء. في المقابل أخذت السلطة الفلسطينية وعدد من الحكومات العربية، التي بدت وكأنها تجهل سبب وفاة الرجل أو بالأحرى تتظاهر بذلك، هذه التحقيقات على محمل كبير من الأهمية وكأنها أتت بجديد وسارعت الجامعة العربية إلى عقد اجتماع طارئ للنظر في هذه التطورات التي تبدو لديها حاسمة ومفصلية للكشف عن حيثيات مقتل أبو عمار. و لعل الأهم من حقيقة موت عرفات، هو من الذي قتله؟.. وما مصلحته في ذلك؟ كما أنه من الطبيعي أن فك رموز أية جريمة كانت تستوجب التعرف أضافة على أداة الجريمة وصاحب الجريمة الطرف المساعد في الجريمة، فماذا عن المتواطئين؟ أكانوا عربا أم فلسطينيين؟ صاحب الجرم الجريمة كانت واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، بل إن المجرم لم يحرص على اخفائها، وإن عمل على التكتم على تفاصيلها المباشرة، ونشير هنا إلى ما كشفه الصحفي الإسرائيلي المعروف أوري دان (الاعلامي الأكثر قربا من شارون) في كتابه «أسرار شارون» الذي صدر سنة 2007. فقد أكد دان في كتابه أن شارون قد تحلل في 14 أفريل 2004 من الوعد الذي قطعه للرئيس الأمريكي السابق بوش الابن بعدم التعرض لعرفات بأي أذى. ففي اللقاء الذي عقد بينهما في البيت الأبيض قال شارون لبوش أنه لم يعد ملزما بالوعد الذي قطعه أثناء لقائهما الأول بعد فوزه في الانتخابات وهنا رد بوش: «ربما من الأفضل ابقاء مصير عرفات بأيدي قوة عليا، بأيدي الله»، فأجابه شارون بالحرف الواحد كما ورد في الكتاب «ربما يجب أحيانا مساعدة الله». وبينما سكت بوش اعتبر شارون أنه تحرر من عبء ثقيل، والكلام على عهدة الصحفي الإسرائيلي. لذلك فإن الجريمة كانت واضحة تماما كما هو الحال في محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل في عمان، لكن ما فعلته «الجزيرة» هو أنها قدمت لنا الدليل القاطع -ربما- على نوع المادة السامة التي استخدمت في قتل الرجل وهي مادة البولونيوم التي سبق أن استخدمها الروس في قتل العميل الروسي السابق «ألكسندر ليتفينينكو» في لندن، ويرجح أنه هو نفسه الذي استخدم في قتل عرفات لأنها وجدت آثاره في ملابسه. كما تجدر الإشارة في السياق ذاته أن البلد الأكثر خبرة في مجال السموم، ربما في التاريخ البشري، هو الاتحاد السوفياتي، خاصة جهاز مخابراته الأشهر (KGB). وعندما انهار الاتحاد السوفياتي استقطب الإسرائيليون الكثير من تلك الخبرات، كما حصلت بعض الدول العربية كالعراق على تلك السموم التي تقتل بطرق مختلقة، بعضها خلال ساعات، وبعضها خلال أيام، وبعضها خلال شهور. إن البعد الأول في هذه الجريمة بات جليا للعيان والمتمثل في صاحب الجريمة ناهيك عن أداتها، أما البعد الثاني فيتمثل في الأطراف المتواطئة في عملية القتل ابتداء من تهيئة الجو الملائم وصولا إلى عملية القتل في حد ذاتها. الأطراف المتواطئة على الصعيد العربي كان الجميع متواطئا في السكوت على الجريمة، لكن أهمهم على الإطلاق كان نظام مبارك بجناحيه (الرئيس وعمر سليمان رئيس المخابرات)، وليس مستبعدا أن يكون شارون قد أخبر مبارك بنية قتل عرفات، وإضافة لسعي النظام المصري السابق إلى إخفاء الجريمة، ساعد الإسرائيليين من أجل إتمام سائر الترتيبات ما بعد عرفات على النحو الذي يتماشى مع مصالحهم. لكن حسني مبارك لم يضطلع بمفرده بمهمة تهيئة الأرضية الملائمة للعملية ولما بعدها، بل معه متواطئون من حركة فتح في اطار توريث كل شيء لعباس (السلطة والمنظمة وحركة فتح)، بالتالي فالمجموعة التي ورثت الحكم هي التي تواطأت مع العدو لإخفاء الجريمة بل إن بعضهم مورط في اغتيال أبو عمار مثلهم مثل الصهاينة. ألم يكونوا هم الذين حاولوا التخلص من عرفات عبر انقلاب عسكري قبيل مقتله بعام وكان بطلا الانقلاب محمود عباس ومحمد دحلان، أليس هذان الأخيران هما اللذان وقفا ضد دعم عرفات لنهج الانتفاضة المسلحة (السبب المباشر في تصفيته) كحل وحيد لردع المارد الإسرائيلي. وغالبا ما تراشق قياديو فتح تهمة قتل الزعيم الفلسطيني سواء من خلال اتهام فاروق القادومي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير لكل من محمود عباس ومحمد دحلان بالمشاركة في الجريمة أو اتهام قيادة فتح لمحمد دحلان بذات التهمة واتهامات محمد رشيد لعباس. ولعل السؤال المطروح في الوقت الراهن، هو ما الذي أتت به هذه الأطراف المتواطئة مع العدو للقضية الفلسطينية اليوم وما الذي فعلت بالشعب الفلسطيني؟ إن الذي يهيمن اليوم على السلطة الفلسطينية والمنظمة وحركة فتح لم يأت سوى لتكريس إرادة العدو الصهيوني لكي يزيد من معاناة شعب مهضوم الحق مستباح الأرض والعرض ولكي يبدد الحلم الفلسطيني والعربي في استرجاع حقه وكرامته المسلوبة. بماذا أتى محمود عباس غير المذلة والاستكانة للقضية الفلسطينية، أيعقل أن يرسل عباس برقية تهنئة لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت بمناسبة تبرئته من تهم الفساد التي وجهت إليه. أنسي الرئيس الفلسطيني أم يتظاهر بنسيان حقيقة لم ولن ينساها القاصي والداني.. حقيقة ما اقترفه أولمرت في حربين مدمرتين الأولى على جنوب لبنان في مثل هذا الوقت من سنة 2006 والثانية عندما أمطرت سماء قطاع غزة قنابل الفسفور الإسرائيلية المحظورة دوليا ودمر القطاع بالكامل وقتل زهاء 1400 فلسطيني بعد حصار مرير دام لسنوات. أليس مخزيا أن يصل الأمر بالسلطة الفلسطينية ممثلة برئيس وزرائها سلام فياض أن تطلب من مستبيح أرضها أن يتوسط لها لدى صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بمائة مليون دولار يخرجها من أزمتها المالية. هل هذا معقول وبأي حق السلطة الفلسطينية توسط عدوها للتسول باسم الفلسطينيين وما الضمان في ذلك مزيد من استباحة أراضيها ومقدساتها ومزيد من التنازلات عن الثوابت كحق العودة، ناهيك عما كشفته وثائق التفاوض عن ذهاب الفلسطينيين بعيدا في التنازلات إلى حد أن الطرف الإسرائيلي رفض هذه العروض المغرية. إنه لمن المؤلم أن تتراجع القضية الفلسطينية التي كانت تهز العالم بأسره إلى مثل هذا المستوى الانبطاحي المخجل وباتت تحتل ذيل الاهتمامات العربية، لكن ذلك يعود إلى غياب كلي للحراك الفلسطيني على مستوى القيادات إلى درجة الرضوخ والاستسلام. وها هم يريدون العودة للتفاوض اليوم دون أي أفق، وعلى أي شيء يتفاوضون في ظل استمرار الاستيطان والتهويد. إن المهم بالنسبة للشعب الفلسطيني والعربي بصفة عامة ليس الوصول إلى حقيقة أن عرفات قد مات مسموما وأن الفاعل هو العدو الإسرائيلي، بل السعي للقصاص لمقتله ومعاقبة الجناة. لكن ذلك سيظل مستبعدا ما دام ماسكو السلطة الفلسطينية اليوم هم المتواطؤون. أما الأهم لديهم هو إلى متى سيدوم هذا الخضوع المذل للكيان الصهيوني.. وإلى متى سيبقى هؤلاء المتواطؤون في مقتل عرفات ممسكين بالسلطة، فقد ميعوا القضية الفلسطينية وحرفوا مسارها.