مع تصاعد القتال في سوريا بدأت التحليلات تركّز على ما بعد سقوط نظام الأسد، ليس بالنسبة لمستقبل سوريا فهذا ليس مهما كما حدث مع مستقبل العراق بعد الاحتلال ولا ليبيا بعد قصف الناتو ولكن لمستقبل المنطقة. ولعل أهم المعنيين بما بعد نظام الأسد في سوريا هم جيرانها؛ لخوفهم على استقرار بلادهم او مستقبل مصالحهم الإقليمية المباشرة في ظل اضافة دولة فاشلة أخرى إلى العراق. وقبل التعرض إلى تأثير تغيير النظام بالقوة المسلحة في سوريا على جوارها وعلى المنطقة، من المهم الإشارة إلى السياق الذي يحدث فيه ؛ وعلاقته بتطورات المنطقة من ناحية وما يجري في العالم منذ ثلاثة عقود من ناحية أخرى. لا يختلف ما يجري في سوريا منذ بداية أحداثها في ربيع العام الماضي عن بقية دول المنطقة، وحتى عن ليبيا التي شهدت ايضا تغييرا للنظام بالقوة المسلحة من حلف الناتو مدعوما بأموال عربية. فالانتفاضة الشعبية التي بدأت في درعا لم تتطور كما حدث في تونس أو مصر أو اليمن، وبدا واضحا بعد اسبوعين ان الشعب السوري ليس مستعدا لتغيير نظام الحكم ولا قادرا على ذلك حتى بدعم خارجي. وليس معنى ذلك ان أغلبية السوريين مع نظام الاسد، لكن تركيبة المجتمع السوري وعماده طبقة وسطى من التجار الصغار والمتوسطين وموظفي حكومة وقطاع عام جعلته مقاوما لأي تغيير يهز استقرار الاوضاع واقصى طموحه هو «الاصلاح». ولعب النظام على ذلك منذ بدء جهود تغييره مع مطلع القرن. ورغم اخراج قواته من لبنان وإدانته في اغتيال الحريري عام 2005 وضرب حليفه حزب الله اسرائيليا في 2006 وزيادة الضغوط باضطراد على حليفه الاقليمي في طهران لم يسقط نظام الأسد معتمدا على إمساكه الأمني بمقاليد الأمور في الداخل. وخسر الأسد فرص الحلول الوسطى بإغضابه النظام السعودي والمصري، ولم يساعد قطر في احتواء حزب الله بعد حرب 2006 وراهن على الأتراك دون جدوى فتركيا وان تقاطعت مصالحها مع إيران أحيانا إلا انهما متنافستان بقوة وتجربة عراق ما بعد الانهيار غير قابلة للتكرار في سوريا. أما روسيا والصين، فإن مقاومتهما للتدخل الغربي لتغيير الانظمة بالقوة لا يتجاوز كونه آخر صراعات الحرب الباردة التي اخذت في الانتهاء منذ الثمانينيات. ولعل سوريا تكون آخر حلقات تلك الحرب التي حكمت التنافس بين قطبين عالميين ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية السبعينيات مع انهيار أحد القطبين (الاتحادالسوفياتي) وتفرد الآخر (اميركا). وتدرك موسكو وبكين ان الحرب الباردة انتهت، وان الحساب الدقيق لمصالحهما مع اميركا واوروبا مقابل كسب نقاط في السياسة الدولية والاقليمية يجعلهما على استعداد للقبول بتغيير النظام في سوريا وان حاولتا الحد من الأضرار عليهما. ولا تملك تركيا خيارات كثيرة، ومشكلتها الأساسية هي الحد من مخاطر العامل الكردي عبر حدود سوريا ليضاف إلى العراق في هذا الشأن وامكانية استغلاله اسرائيليا لتحقيق مكاسب اقليمية على حساب انقرة. ورغم استضافة تركيا لقيادة الأعمال المسلحة ضد النظام السوري، الا انها لا تثق كثيرا في فصائل المعارضة تلك خاصة وأن أغلبها يتلقى تمويلا خليجيا؛ ودول الخليج مرتابة من انقرة ولا تنسق معها بشكل يريح القيادة التركية. تبقى القوة الاقليمية الأخرى المعنية بالوضع السوري (ايران) محاصرة من كل جانب وان كانت على ما يبدو غير مستعدة لحماية حلفائها وربما ترى الاكتفاء مرحليا بالجماعات (حزب الله وحماس والجهاد) بدلا من معركة خاسرة لانقاذ نظام الأسد في سوريا. وحتى قبل نهاية النظام في دمشق، بدأ التركيز الآن على حزب الله في لبنان وكأنما ترغب اسرائيل في استغلال سخونة الأوضاع للقضاء مرة واحدة على كل بقايا الحرب الباردة في المنطقة والتعجيل بتسوية للصراع معها في المنطقة بشكل شبه حاسم. ولا غرابة في ان الحديث عاد مجددا عما يسمى» مبادرة السلام العربية « (التي طرحتها السعودية وتجاهلتها اسرائيل بإهانة فظة للعرب كلهم) متوازيا مع الجهود العربية لدعم المعارضة السورية لإنهاء مسألة نظام الأسد دون إطالة ولن تكون هناك مشكلة كبيرة سوى مع حزب الله في لبنان؛ ويراهن الجميع على ان الشحن الطائفي (سنة وشيعة) في المنطقة على مدى السنوات الأخيرة ووجود قوى إسلامية سنية من المغرب إلى مصر في السلطة وبدعم من قطر يمكن ان يسهل التخلص من حزب الله ودفع حماس للتوافق مع السلطة الفلسطينية وإبرام اتفاق مع إسرائيل. كان الصراع العربي الإسرائيلي، وما زال، آخر حلقات الحرب الباردة والذي مثل المكون الرئيسي في خطها البياني صعودا وهبوطا لأكثر من نصف قرن. ومع نهاية الحرب الباردة لا يريد الأميركان والغرب عموما ان تكون اسرائيل (والفلسطينيون فيها حسب تصوراتهم) ضمن قوس النار الساخن (وغير المشتعل) الممتد من باكستان إلى لبنان مرورا بأفغانستان و(ايران لاحقا) والعراق وسوريا. وهكذا تنتهي الحرب الباردة وتبدأ مرحلة من الحروب الداخلية الضعيفة في المناطق التي شهدت تجاذب القوتين في العالم ثنائي القطبية السابق وبانتظار بزوغ نظام عالمي جديد.