تأليف الدكتور محسن عبد النّاظر تنشر «الصباح» طوال شهر الصيام المبارك فصول كتاب «النّظر الدقيق في سيرة الرّسول محمّد- صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم» الصّادر عن شركة المنى للنّشر لمؤلّفه الدكتور محسن عبد الناظر. والدكتور محسن عبد الناظر أستاذ متميز بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الاسلامي الأعلى له عديد المؤلفات في السيرة والهدي النبوي. «الصّباح» تشكر الدكتور محسن عبد الناظر باتاحته هذه الفرصة لقرائها لكي يطلعوا على قيمة أحدث مؤلفاته... الحلقة العشرون ميراث الرسول (ص) كتاب الله تعالى وسنة رسوله (ص) هما ميراث النبوة يشترك فيه كل البشر، فالرسول مبعوث الى الناس كافة، فالكل مطالب بأن يعرف القرآن وأن يتدبره ويعمل بأحكامه، وعلى العلماء ان يستخرجوا ما فيه من حكمة وأحكام، وان يتعمقوا في دراسة اشاراته العلمية، وفي كنوز المعرفة التي تضمنتها آياته، ومطالبون أيضا بالرجوع الى السنة، والى السيرة لفهم القرآن فهما جيدا، ولتنزيل احكامه وحكمه الى الواقع العملي، ففي الاصلين ما يثبت ان الرسول (ص) اتى للبشرية بخيري الدنيا والآخرة، فالقرآن الكريم وهو الكتاب المقدس الذي لاينكر أحد ان محمدا (ص) بلغه عن ربه ليهتدي به الناس كافة، وانه يصنف اول كتاب اهتم به الفكر البشري، فمنذ تلاوته على اصحاب الرسول (ص) حفظه بعضهم كله، وحفظ البعض الآخر جزءا منه، وكتب بعضه من كان قادرا على الكتابة، وجمع مؤتمر، حضره القراء والكتاب، بأمر من أول خليفة للمؤمنين: أبي بكر الصديق، وبرئاسة زيد بن ثابت الذي كان حافظا وكاتبا للقرآن في عصر النبوة، ما تفرق من القرآن المكتوب، وترك المجموع، أمانة عند زوج الرسول (ص) حفصة بنت عمر بن الخطاب، التي كانت تقرأ، وفي عهد الخليفة الثالث: عثمان بن عفان، نسخت، انطلاقا من المجموع الذي كان عند حفصة، وبحضور القراء، والكتاب وبرئاسة زيد بن ثابت، المصاحف التي أرسلها الخليفة الى الامصار، وارسل مع كل نسخة قارئا، وتكاثرت بعد ذلك نسخ القرآن، ووضعت الضوابط حتى تسلم بفضلها النسخ الجديدة من التحريف والاخطاء، وتفنن الخطاطون والمزوقون في اخراج المصاحف وتقريبها من الناس، ولما ظهرت الطباعة طبع القرآن اول مرة في ديار غير المسلمين، ثم تعددت الطبعات، واستقرت المصاحف في المساجد، وبعض دور العبادة واغلب بيوت المسلمين، وكثير من المكتبات العمومية والخاصة، والجامعات، واحتفظ بعضهم بنسخ نادرة للمصاحف الاولى، فاهتم بتحقيقها متخصّصون، اضافوا الى الدراسات النظرية، براهين مادية اثبتت ان القرآن الموجود الآن بين يدي الناس هو الذي نزل على الرسول (ص) ومن هؤلاء المحققين الدكتور طيار آلتي قولاج الذي حقق مجموعة من نسخ المصاحف، وقارن بينها أولا، ثم بينها وبين نسخ حققها غيره، واخيرا بينها وبين مصحف الملك فهد المطبوع حديثا بالمدينة المنورة، وتوصل بفضل تحقيقه ومقارناته الى نتائج تثبت: - انه لا يوجد على وجه الارض كتاب له نسخ مخطوطة ونسخ مطبوعة بقدر ما للقرآن الكريم. - ان النسخ المخطوطة للمصاحف التي حققها او رجع اليها تعود الى النصف الثاني من القرن الهجري الاول، او الى النصف الاول من القرن الثاني، أي ان بعضها كتب في عصر الصحابة. - تمت كتابة النسخ على ايدي كتبة مختلفين من مصاحف سيدنا عثمان التي ارسلت الى مناطقهم التي تبعد عن بعضها، ولايعلم احدهم عن الآخر شيئا فاتفاق النسخ وتطابقها دليل على ان النص المنزل على الرسول (ص) هو الذي نقلته. والى جانب ما استنتجه الدكتور طيار آلتي قولاج يمكن التأكيد على ان كل الذين سعوا عبر العصور الى ادخال في القرآن ما ليس منه، افتضح امرهم، وصدق قوله تعالى «انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون» وثبت عند الباحثين أن «صحة القرآن التي لاتقبل الجدل تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل، ولايشترك مع نص القرآن في هذه الصحة، لا العهد القديم، ولا العهد الجديد». ان الثقة في وصول القرآن الى الناس كما بلغه الرسول (ص) عن ربه، دون تبديل او تحريف، ودون زيادة او نقصان، تتكامل مع ما ورد فيه من اخبار وحكمة واحكام، واشارات ينطلق منها الباحثون والمشرعون والعلماء في مختلف الاختصاصات لبناء الحضارة وتحقيق التقدم والتطور، ففي القرآن مصادر للمعرفة فهو، وان لم يأت في دنيا العلوم بكل شيء لأنه ليس كتابا في العلم، الا أنه لا يوجد فيه «ما يعارض حقيقة علمية ثابتة ارتقت من درجة الفروض الى مقام الحقائق التي لا يتطرق اليها الشك» وهو «يدعو الى المواظبة على الاشتغال بالعلم، ويحتوي على تأملات عديدة خاصة بالظاهرات الطبيعية، وبتفاصيل توضيحية تتفق تماما مع معطيات العلم الحديث وليس هناك ما يعادل ذلك في التوراة والانجيل». الا يدل ما تقدم على ان القرآن منزل من عند الله وان الفلاسفة والعلماء وكل من بلغ درجة عالية من الحكمة والمعرفة، لايستطيعون ان يأتوا بمثله حتى ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فعلم عصرهم، والعصور التي تلته قاصر على ذلك، وأميّة الرسول (ص) التي نفاها من اراد التأكيد على ان الرسول (ص) تعلم القرآن، واخذه عن غيره، تبدو مفتعلة، ولاتجدي نفعا سواء وقع اقرارها او نفيها. فالقرآن يحتوي على علوم وصل الى بعضها الانسان بعد الرسول (ص) بقرون، ولعله يصل الى البعض الآخر منها في مستقبل الأيام، فمصدره اعلام الهي تلقاه محمد (ص) عن ربه شكلا ومضمونا بقوى واجهزة اصطفاه الله تعالى بها، وبفضله قدم للبشرية اشارات علمية وصل الانسان الى بعضها بعد قرون من انتقاله الى ربه، وهو مطالب بالتعمق فيه دائما ليستثمر ما فيه من اشارات تفتح ابوابا للمعرفة والتطور فهل يقبل بعد ذلك القول بأن قوى بشرية علمت الرسول (ص) ما بلغه عن ربه، وهل يوجد افتراض يقول اصحابه ان مضمون القرآن من الله، اما لفظه فمن محمد (ص) ادلة تبرهن على صدقه؟ الا تبرز مقارنه اسلوب القرآن وطريقة نقله ووصوله الى البشر بأسلوب السنة والاحاديث المروية عن الرسول (ص)، ما فيه من خلل ومن عناد، وتؤكد ان القرآن معجزة خص الله تعالى بها محمدا (ص) ليخرج البشر من الظلمات الى النور، ويترك فيهم مصدرا للمعرفة لاينضب، اما السنة التي ذكرها الرسول (ص) مع القرآن، فيقتصر المقام على ما أجمع عليه العلماء من أن بينها وبين القرآن اتفاقا، واختلافا، فقد صدرت في مجملها عن الرسول (ص) دون ان يكون لفظها من عند الله فهو من انشائه، وكل ما صح منها فمحميّ بالوحي فالرسول (ص) لاينطق عن الهوى، قد يصدر عنه قول او فعل لايرضى عنه الله تعالى، أو يكون مرجوحا بالنسبة الى غيره، فينزل الوحي للبيان والاصلاح، وهذا هو المقصود بعصمة الرسول (ص) التي تنفي عنه الوقوع في الخطإ عند التبليغ عن ربه، وتنزهه عن البقاء عليه ان هو وقع في مواقفه او اختياراته، والسنة تنزل العبادات والاحكام والقيم الواردة في القرآن الى الواقع العملي، وتوضح وتفسر وتبين للناس ما بفضله يعبدون ربهم حق عبادته، وما بواسطته يفهمون القرآن فهما جيدا، تدرك بواسطته المقاصد، وتتضح سبل الرشاد، وتوجد الحلول للقضايا الناشئة، وتفتح الطريق للعلوم الضرورية التي تبنى بفضلها الحضارة، ويرتقي بواسطتها الانسان الى اعلى المراتب فالسنة بهذا المفهوم تقدم للبشر ما بفضله يفهمون القرآن فهما جيدا، ويطبقون احكامه تطبيقا يحقق العدل والانصاف، ويسهم في ايجاد الامة التي خاطب الله تعالى افرادها بقوله «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله».