مساءلة الحكومة تعتبر من أدبيات الأنظمة البرلمانية ومن الآليات الديمقراطية التي تتيح لنواب الشعب وضع الحكومة أمام مسؤوليتها وممارسة الرقابة الشعبية عن أداءها بما يتيح للرأي العام متابعة سير أعمالها لرصد إخفاقاتها وكذلك نجاحاتها.. و قد نصّ القانون المنظّم للسلط المؤقتة على أن هناك صلاحيات للمجلس التأسيسي منها مراقبة عمل الحكومة وهذا معمول به في كل ديمقراطيات العالم أما الصيغة المعتمدة فهي طرح الأسئلة الكتابية والشفاهية على الحكومة في جلسة مساءلة علنية.. "التّهريج" السّياسي.. قد تكون المشاحنات السياسية السمة الغالبة لما يحدث في معظم برلمانات العالم وخاصّة الديمقراطية منها ,حيث ترافق تدخلات النواب الكثير من التوتّر والتشنّج خاصّة في صورة ما إذا اقترفت الحكومة أخطاء في تسييرها لمرفق الدولة.. ولئن لا يختلف الأمر ظاهريا في جلسات المساءلة التي خضعت لها الحكومة في المجلس التأسيسي فانه يبدو من الواضح أننا لم نتمّكن بعد من آليات الديمقراطية الحقة التي تتيح للنواب التجرّد من عباءاتهم الحزبية وممارسة دورهم على أكمل وجه في مساءلة الحكومة عن الثغرات التي بدت بينة في أدائها حيث اتسمت مداخلات أغلب النواب في جلسات المساءلة بالتشنّج المبالغ فيه والتهكّم ومحاولة "تقزيم" الأخر دون التحلّي بالمصداقية في طرح الأسئلة .. والملفت للانتباه أن بعض مداخلات النواب سقطت في فخ "التهريج" السياسي وأثارت عاصفة من السخرية والتهكّم لدى الرأي العام الذي استهجن في الكثير من المداخلات المستوى المعرفي المتدني لبعض النواب وعدم مثابرتهم في الاطلاع على الملفات الوزارية المطروحة للنقاش.. ودون أن ننسى المناوشات التي غالبا ما تنشب بين النواب وتابعنا مؤخّرا كيف وصل الأمر إلى حدّ التشابك بالأيدي والكلمات غير اللائقة في مجلس كان من المفروض أن يكون له هيبة ووقار أمام الرأي العام.. وقد تذمّر عدد من النواب من سياسية المكيالين التي ينتهجها رئيس المجلس ونائبته في التعامل مع الكتل حيث اعتبر نواب أن كتلة حركة النهضة تبدو مبجلة في التأسيسي وهو ما مثّل عامل توتر إضافي شحن الأجواء وأدى إلى التراشق بالتهم من هنا وهناك الى درجة غاب فيها الوعي بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق النواب في محاولة إيجاد الحلول الناجعة والعاجلة لمشاكل بدأت تتضخّم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ونخشى أن تنفلت الأمور من يد الجميع. موالون و معارضون.. و دموع "أصحاب المعالي" ! شهد رحاب المجلس التأسيسي جلسات مساءلة بقيت راسخة في الأذهان بالنظر لما وقع تداوله خلاله بالإضافة إلى دموع أصحاب المعالي من الوزراء ونذكر جميعا الحشرجة التي علت صوت علي العريض والدموع التي ملأت عينيه وهو يواجه سهام النقد اللاذع من الفرقاء والأصدقاء على حدّ السواء على اثر القمع الهمجي الذي تعرّض له المتظاهرون في شارع الحبيب بورقيبة وأعادت الى الأذهان "ماكينة" القمع البوليسي الذي عانى منه طويلا مناضلون ومواطنون.. ونفس الدموع ذرفها وزير التربية وهو يواجه تداعيات فضيحة تسريب امتحان الباكالوريا..واذا كانت هذه الدموع لم تشفع للوزيرين ولم تحصّنهما ضدّ النقد اللاذع فان المجلس عندها انقسم إلى موالين يبررون الخطأ ومعارضين جلدوا الوزراء بسياط النقد واعتبروهم فشلوا في مهامهم كما لا بدّ أن نشير إلى قضية تسليم البغدادي المحمودي التي رفعت درجة التشنّج إلى أشده من خلال تصدير لائحة لوم ضدّ الحكومة.. لكن إذا نظرنا بتمعّن إلى ما قيل في هذه الجلسات "الشهيرة" وما أطلق من وعود وتعهّدات بفتح تحقيق في التجاوزات نجد أن الحصيلة "ذر رماد" في العيون وأنه عقب هذه الجلسات لم تتخذ قرارات وخطوات حاسمة لمعالجة هذه الثغرات التي برزت في أداء الوزراء وكانت مجرّد لحظات غضب عابرة عبّر فيها النواب عن حنقهم..وانتهى الأمر ! منية العرفاوي الأسئلة الكتابيّة الموجّهة للحكومة.. دون عنوان ! الأسئلة الكتابية التي توجّه للحكومة لمساءلتها حول أدائها هي من الآليات التي تعتمدها الأنظمة الديمقراطية والتي تعطي للعمل النيابي قيمة مضاعفة وتجعل الحكومة خاضعة للرقابة الشعبية باستمرار ..لكن أثناء جلسات المجلس الوطني التأسيسي لاحظنا أن عددا من النواب استفسر عن مصير سؤاله الكتابي الذي وجهه للحكومة ولم يحظ بالردّ.. ورغم أنّنا قد نتفهّم انشغال الحكومة الكبير بمعالجة الملفات العاجلة بما يراكم أعمالها ويضبط جدول تحركاتها بحيث أن ضيق الوقت وضغط الأحداث قد لا يترك متسعا من الوقت للوزراء للإجابة ومتابعة ما يطرح عليهم من طرف النواب من أسئلة كتابية تمرّ عبر مكتب الضبط للمجلس التأسيسي فان ذلك لا ينفي مسؤولية الوزير أو العضو الحكومي في أخذ هذه الأسئلة الكتابية على محمل الجدّ والإجابة عنها في الآجال المعقولة لأنها تعكس بطريقة أو أخرى وجهة نظر الرأي العام في المسائل التي تهم سير دواليب الدولة.. من جهتنا حاولنا الاتصال تكرارا ومرارا بعضو المجلس التأسيسي سميرة مرعي عن الحزب الجمهوري ومساعد رئيس المجلس المكلّف بشؤون التشريع والعلاقات مع الحكومة وبعد أن وعدت بمدنا بعدد الأسئلة الكتابية التي وجهت لحكومة "الترويكا" من أعضاء المجلس التأسيسي طوال المدة السابقة ,امتنعت بعد ذلك عن الإجابة على الأسئلة..وهذه السلوكيات التي يأتيها بعض أعضاء المجلس التأسيسي هي مؤشر خطير حول التهاون في تحمّل المسؤوليات النيابية التي يترّتب عنها حجب المعلومة عن الرأي العام أو مغالطته بمواقف تفتقد للمصداقية في غياب المعطيات الصحيحة ومن مصدرها.. رابح الخرايفي : نتائج المساءلات متوقفة على إرادة الحكومة في تحقيقها اعتبر رابح الخرايفي عضو المجلس التأسيسي والقيادي في الحزب الجمهوري أن مساءلة الحكومة في حدّ ذاتها هي معيار للديمقراطية.. وتطبيقها اليوم في تونس ينم على معطيين هما امتثال الحكومة لهذه الآلية ووعي نواب المجلس الوطني التأسيسي بضرورة التدرّب على الممارسة الديمقراطية. وفي ذات السياق يجيب الخرايفي على السؤال المتعلق بغياب النتائج الملموسة لهذه المساءلات التي تمت في التأسيسي على أرض الواقع بالقول "أثر هذه المساءلات ونتائجها يتوقّف على ارادة الحكومة لأنه ليس هناك طريقة أخرى لوضع الحكومة أمام مسؤولياتها".. وحول مدى تفاعل الحكومة مع الأسئلة الكتابية خاصّة ومدى متابعة النواب لما يتعهّد به الوزراء في جلسات المساءلة يؤكّد الخرايفي أن عددا من النواب طالبوا في كل مرة المجلس التأسيسي بنشر الأسئلة الكتابية والشفاهية للرأي العام.. لكن في الغالب هناك أسئلة مستعجلة تفرضها الاحداث وفي سياق محدّد والمهم أن يبقى النائب في علاقة مباشرة بالاحداث والمستجدات وتبقى الأسئلة الكتابية والشفاهية ورقة حمراء ترفع في وجه الحكومة لكي لا تعتقد انها لها مطلق التصرّف.. وهذه الأسئلة التي يطرحها النواب في النهاية هي الأسئلة التي تخالج ذهن المواطن والتي قد لا يجيب عليها السياسي في منابر أخرى لكن في جلسات التأسيسي هو مجبر على الاجابة وبالتالي يمكن للتونسيين تقييم الأداء الحكومي وتعييره في الانتخابات القادمة.. وتبقى حجة الحكومة الشرعية رغم أننا في مطلق الأحوال لا نناقش هذه الشرعية بل الأداء الذي لم يرتق الى حدّ الآن الى انتظارات الشعب ولم يبرهن أعضاء الحكومة أنهم رجال دولة فالنضال بالضرورة لا يصنع رجالات دولة.." كريمة سويد : هناك وزراء لا يبالون بالمساءلة تعتبر عضو المجلس التأسيسي كريمة سويد أن هناك في الجلسات من الوزراء من يبدي اهتماما بما يطرح من أسئلة ويحاول قدر الامكان أن يكون في مستوى انتظارات الرأي العام وتضيف "كما ان بالنظر لما يقدّمه الوزراء من معطيات نلمس جدية من عدمها في التعاطي مع الملفات الحاسمة فهناك فرق بين كيفية تعاطي وزير الفلاحة ووزير الشؤون الاجتماعية في محاولتهم المستميتة لحل مشاكل القطاعات التي يشرفون عليها، ووزير النقل الذي أعتبره لا يقوم بما هو مطلوب منه كوزير ناهيك وأن حركة الجولان في وسط العاصمة اختنقت وكذلك ليس هناك تنسيق مع الهياكل الامنية المختصة وهذا لا يبرّر الانهماك في مسائل أكثر أهمية بقدر ما يبرّر تخاذل أطراف عدة في القيام بما هو مطلوب.." وتختم سويد أن أداء الحكومة وان شهد هنات في بعض القرارات فهذا لا ينفي أنه يجب أن نتفهّم صعوبة المشاكل الموجودة وأن نحاول التحلي بالحكمة والرصانة حتى نستطيع الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة. محمد الكيلاني : مساءلة الحكومة.. لا معنى لها لمحمد الكيلاني رئيس الحزب اليساري الاشتراكي رأي حاسم في ما يتعلق بالمساءلات التي خضع لها وزراء حكومة الترويكا، اذ يعتبر أن مساءلات الحكومة التي لا تنتهي باصدار لائحة لوم تصبح لا معنى لها وتبقى مجرّد فسحة لتنفيس شحنة غضب لبعض النواب بالاضافة الى الكم الذي نسمعه من المزايدات الكلامية.. ويضيف الكيلاني "هذه المساءلات أفرغت من جدواها لسبب بسيط هو أن حركة النهضة متمكنة من الأغلبية داخل المجلس التأسيسي وبالتالي صوت الأقلية يصبح لا معنى له وهو يضعنا أمام سؤال محرج يتعلق بمستقبل الديمقراطية في ظل اغلبية مهيمنة وأقلية غير مؤثرة وبالتالي تصبح العملية الديمقراطية كلها باهتة بما في ذلك العملية الانتخابية في حدّ ذاتها".. ويضيف الكيلاني "المرة الوحيدة التي كانت لهذه المساءلات وقعها الحقيقي والفعّال وتمكّن من خلالها النواب تحقيق النصاب في رفع لائحة لوم لكتابة المجلس سحبت هذه اللائحة بدعوى عدول نائبين عن التصويت لصالح اللائحة.. وقد اتخذ رئيس المجلس قرار سحبها رغم أنه لا يملك هذا الحق وحتى تراجع النائبين فقد كان بضغط حزبي من الحزب ذي الأغلبية النيابية الذي يمرّر ما يريد ويمارس ضغطه على من يريد وبعد كل ما سبق ذكره تصبح مساءلة الحكومة لا معنى لها ولن نرى لها نتائج مقنعة على أرض الواقع".