شهد لبنان منذ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في فيفري 2005 وإلى غاية صدور القرار 1757 والقاضي بإنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي أحداثا وأوضاعا مازالت تداعياتها مستمرة حتى الساعة ارتفعت خلالها التكهنات في أكثر من مرة بقرب نشوب حرب أهلية جديدة وانهيار النظام اللبناني. ولعل من بين الأسباب التي أدت إلى جعل لبنان مسرحا للتجاذب السياسي الداخلي من جهة ومهدت للتدخل الأجنبي من جهة مقابلة هو موضوع المحكمة الدولية التي طالما نادت بها أطراف أخرى بل وطالبت بتقديم ما رأته إصلاحات سياسية أهم من موضوع إنشاء المحكمة الدولية.... إلا أنه وبعد طول انتظار مشفوع بكم من الأحداث التي تراوحت بين الاغتيالات والانفجارات والمظاهرات والتدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي اللبناني أقر مجلس الأمن إنشاء المحكمة الدولية لملاحقة المتورّطين في اغتيال الحريري ولا أحد يمكنه أن يتكهن ما إذا كان هذا القرار سيشكل فرصة حقيقية لترتيب جديد للأوضاع السياسية الداخلية أم أنه سيكون مقدمة للانهيار الحقيقي خصوصا وأن نار نهر البارد تأججت أكثر فأكثر بعيد إعلان قرار مجلس الأمن بإنشاء المحكمة الدولية بل وامتدت ألسنتها إلى مخيم عين الحلوة والخوف كل الخوف أن تمتد إلى العشرة مخيمات الأخرى الموزعة في مناطق مختلفة من البلاد بما قد يكون مؤشرا لانتفاضة المخيمات في لبنان. الطريق الوعر نعم تمّ إقرار إنشاء المحكمة الدولية ولكن بعد ماذا؟ وبأي ثمن؟ لم يكن الوصول إلى هذا القرار بالأمر الهيّن فمنذ إعلان وجوب إقامتها توالت على لبنان الكثير من الأزمات مما جعله يبدو كأنه أوهن من أن يأخذ بزمام الأمور بيده في محاكمة المتورّطين في اغتيال الحريري ومن ثمّة فتح الباب وعلى مصراعيه للتدخل الأجنبي. ولا يخفى على كل متتبع للملف اللبناني أن الخلاف الداخلي بشأن المحكمة ألقى بظلاله على الساحة السياسية إلى درجة أصبح فيها التلاسن وتبادل الاتهامات بين الفرقاء مادة تتناقلها شاشات القنوات الممثلة لكل فريق. وبينما ترفض المعارضة اللبنانية بجناحيها الرئيسيين حزب الله والتيار الوطني الحر منطق "تسييس " المحكمة وتطالب في المقابل بحكومة وحدة وطنية لها الثلث الضامن تقف الأغلبية النيابية لتؤكد أن الثلث الذي تطالب به المعارضة سيعطل القرارات التي تتخذها الحكومة وفي مقدمتها قرار إنشاء المحكمة الدولية وهو المطلب الرئيسي والأوحد لقوى 14 مارس. وعلى ضوء هذا الاختلاف وما رافقه من تهم من هذا الطرف وذاك وصلت إلى حد توريط بعض الأطراف الخارجية في الأزمة الداخلية عاش لبنان على مدى شهور جوّا من التوتر تراوح بين الاغتيالات والاعتصامات وحتى المواجهات... ورغم كل ذلك أقر مجلس الأمن إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة الجناة في جريمة الحريري بل وأصرّ المنادون بهذا القرار أن يتمّ ذلك تحت الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. ولكن لماذا الفصل السابع؟ الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة وضع أساسا من أجل السماح باستخدام القوّة العسكرية ضد الدول التي تهدد تصرفاتها الأمن والسلم الدوليين ولكن ما يبعث على التساؤل هو لماذا اللجوء إلى هذا البند تحديدا مع أن نتائج التحقيق لم تستوف مما ينفي - إلى حد الآن - تورّط أية دولة في هذه الجريمة؟ أم أن الأطراف التي أرادت للمحكمة أن تقام تحت هذا البند بالذات جهّزت من جملة ما جهّزته اتهاما لدولة ما؟ الواضح - وما من أحد بإمكانه نكران ذلك - أن بعض الأطراف حاولت - ومازالت - الزج باسم سوريا في هذه القضية ولا أدل على ذلك سوى أنه سويعات بعد وقوع حادث اغتيال الحريري ظهرت شخصيات لبنانية وأخرى أجنبية ووجهت اتهاما واضحا وصريحا إلى سوريا بضلوعها في الجريمة وبوقوفها وراء المعارضة والدفع بها إلى رفض قرار إنشاء المحكمة . هل بدأت أجراس الخطر تقرع؟ مثّل اغتيال رفيق الحريري فاتحة لالتهاب الأوضاع السياسية اللبنانية والتي كرّست حقيقة أن أزمات لبنان ليست وليدة ظروف داخلية فحسب وإنما هي نتاج سياسة التدخّل والتداخل في الشأن اللبناني من قبل قوى خارجية تسعى إلى تحويل لبنان إلى مزرعة لرعاية مصالحها.. وتاريخ لبنان يؤكد على أنه منذ ظهور هذا البلد على الساحة الدولية وهو يشكل ساحة لتصفية وترتيب الأوضاع السياسية الإقليمية.. فلا جريمة اغتيال الحريري التي أعقبها انسحاب الجيش السوري ولا تشكيل حكومة السنيورة التي اجتمعت حولها آنذاك مختلف القوى (عدا التيار العوني) كان بإمكانها أن تضع حدا لأزمة لبنان لأن أرض هذا البلد شكلت وتشكل وستشكل الأرضية الخصبة للترتيبات الإقليمية التي يجري الإعداد لها ولهذا السبب انفرطت حلقات الائتلاف الحكومي شيئا فشيئا وباتت قضية لبنان الأولى والوحيدة هي المحكمة الدولية على الرغم من عديد المشاكل الأخرى العالقة كالتهديدات الإسرائيلية المتتالية وقضية الإعمار والوضع الاقتصادي الذي تدهور كليا في أعقاب حرب ال33 يوما. هكذا أصبحت المحكمة الدولية هي جوهر الخلاف الداخلي وأيضا محور صراع إقليمي ذلك أن هدف المحكمة ذاته خرج من صيغة ملاحقة المتورطين في اغتيال الحريري وبات أشبه ما يكون بالمحرار لقيس علاقات الدول الكبرى مع بعضها البعض بصفة خاصة ومع دول المنطقة على وجه العموم. ماذا بعد إعلان المحكمة؟ الآن وبعد أن تمّ إقرار المحكمة الدولية وفي انتظار أن يتم تشكيلها وهو أمر قد يستغرق شهورا عدّة ماذا يمكن ان يحصل داخل لبنان وخارجه؟ في الواقع لا أحد بإمكانه الجزم بأن هذا القرار سيحسّن الأوضاع داخل لبنان أو سيضع عديد الأطراف (التي فشلت في محاولة عرقلة هذا القرار عبر لعب أوراق مختلفة آخرها ورقة "فتح الإسلام" لتأجيج فتنة مذهبية في الشق السني وتوريط الجيش اللبناني في مواجهات مع سكان المخيمات) أمام الأمر المقضي خصوصا وأن المعارضة مازالت تصر رغم إقرار المحكمة بعدم شرعيتها وتتهم الأكثرية النيابية بسعيها وراء تفعيل هذا القرار إلى إدخال البلاد في حرب أهلية. وعليه فلا أحد يعلم ما يخفيه قادم الأيام للبنان خصوصا وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بين ما يجري حاليا في لبنان وبين التحركات الخارجية ولا سيما الحوار الأمريكي - الإيراني والأمريكي - السوري والذي تستعمل فيه واشنطن أوراق الضغط على النظامين بما يخدم مصالحها وبما يضر بكل تأكيد بالمصالح الداخلية اللبنانية والتي لن يدفع ضريبتها - وكالعادة - إلا الشعب اللبناني.