لا يختلف عاقلان في اعتبار وكالات التصنيف الائتماني كستاندار أند بورز وموديز وفيتش من أهمّ الحلقات في السلسلة الاستثمارية في العالم ..والمحرار المتاح دوليا لمعرفة العافية المالية والاقتصادية للشركات والدول. فالتصنيفات المسندة من قبل هذه المؤسسات حاسمة في تحديد الوضع الائتماني لمختلف الاقتصاديات وشروط انخراطها بالأسواق المالية الخاصة وفى الدفع بالعديد منها إلى إعادة رسم سياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية... فعملية الاقتراض والتّداين عموما تعدّ من أدقّ العمليات المالية وأكثرها عرضة للمخاطر في ظلّ مناخ اقتصادي دولي حرج للغاية يتّسم بشرخ عميق للمنظومة الائتمانية مباشرة اثر أزمة الرّهن العقاري بالولاياتالمتحدةالأمريكية 2008 -الأسوأ من نوعها منذ أزمة 1929 الكارثية- وتسبّبها في انهيار عديد من المؤسسات المصرفية الكبرى وفى الانتقال النوعي بمختلف الاقتصاديات والتكتلات القوية -بفعل فيروس العولمة- من عتبة الأزمة التي يمكن التحكّم فيها بآليات تعديلية إلى مرحلة من الركود والانكماش على غرار ما تتهدده اليوم منطقة اليورو من مخاطر قد تعصف بوحدتها...شرخ حصل في الماضي وتكرّر اليوم بأشكال أخرى استوجب باستمرار التحقّق من قدرة المقترضين -شركات ودول- على الإيفاء بالتزاماتهم المالية تجاه الأسواق المالية بشكل جيّد ومدقّق.. وقد درجت العديد من الشركات الخاصة المتخصّصة منذ مستهلّ القرن الماضي على القيام بتصنيف المخاطر الائتمانية وفق سلّم يتدرّج من مؤشّر (أأأ) : - مستوى صفر مخاطرة أو يكاد - إلى مؤشر (د) : - مستوى التوقف عن الدفع وإشهار الإفلاس - ويجزّأ المخاطرة الائتمانية ذاتها إلى منطقتين : 1- منطقة استثمارية تمتدّ من (أأأ) إلى (ب ب ب -) 2- منطقة غير استثمارية دون التصنيف (ب ب ب -) تعرف أيضا بمنطقة المضاربة .. قد تختلف الرموز التصنيفية من وكالة إلى أخرى إلا أن مقارباتها في العموم جدّ متقاطعة. فالحطّ من ترقيمنا السيادي بدرجتين من -ب ب ب سلبي- إلى -ب ب سلبي مع أفاق مستقرة- للمدة الفاصلة بين جانفى 2011 وماى 2012 من قبل وكالة ستاندار أند بورز والتخفيض المرتقب من وكالة موديز وما يعنيه ذلك من مغادرة اقتصادنا للمنطقة الاستثمارية الجاذبة لرؤوس الأموال والمفتوحة أكثر على الأسواق المالية بشروط اقتراض عادية ومرنة إلى منطقة مضاربة، متقلبة، أشدّ كلفة بنسب فائدة ومنح مخاطرة عالية.. وأقلّ جذب للاستثمار الخارجي في وقت نحن بأشد الحاجة إلى تعبئة قصوى للموارد المالية لدفع القاطرة الاستثمارية والمقدّرة حسب وكالة ستاندار أند بورز في حدود 5.2 مليار دولار في المنظور المتوسط... كانت في حقيقة الأمر تخفيضات متوقّعة في ظل وضع انتقالي هش فاقد للتوازن غير أنها لا تعكس بالمرة وضع ائتماني كارثى بمعايير المؤشرات الاقتصادية العامة والمناهج المقارنة.. فلسنا بتاتا في وضع اليونان الشبه المفلس والبالغ حجم دينه العام مستويات قياسية مخيفة.. وأن نفس التصنيف ب ب تشترك فيه العديد من الدول ذات الصّيت الائتماني المقبول في الأوساط المالية كتركيا والبرتغال والأردن وغيرها، بلدان لم تمرّ بالوضع العاصف التي عرفته بلادنا منذ 14 جانفى ... حيال مركز ائتماني مخفّض وغير مطمئن.. ما هي المساحات المتاحة اليوم للتعاطي بايجابية مع هذا التراجع بعيدا عن تشنّجات اللّحظة من تحامل أو مغالاة ؟ أن تتحفّظ بعض الأوساط عن التصنيفات المسندة يعدّ أمرا متوقعا يمكن تفهّمه.. لكن من منّا يمكنه الطعن بما تضمّنته تقارير وكالات التصنيف من تشخيص حول ترهّل القطاع البنكي من حيث ضعف وهشاشة بنيته المؤسّساتية والتشريعية والتنافسية..وتعثّر أداء الحكومات المتعاقبة منذ 14 جانفى في مواجهة معدلات البطالة العالية وفي التحكم في الحجم التصاعدي للدين العام وغيرهما من المؤشرات الاقتصادية العامة.. والضرورة القصوى والعاجلة لوضع بوصلة سياسية بإحداثيات محدّدة للمرحلة القادمة تتضمن روزنامة مضبوطة ومدققة للاستحقاق الانتخابي المقبل بآليات واضحة من هيئة انتخابية مستقلة ومجلة انتخابية؟! ملفات مفصلية لازالت عالقة تنتظر إجابات تراوح بين العاجل والآجل في جدلية بعيدة عن منطق التوظيف والمزايدة... فالقفز عن حقيقة التصنيفات السيادية الأخيرة والتصرف كأنها لم تكن أو تبنّيها بالكامل دون تحفّظ أو تنسيب على طريقة قساوسة القرون الوسطى سيحيد بالموضوع برمّته عن مساره الحقيقي ليقحمه ضمن دائرة مفرغة تراوح بين الرفض المطلق للتخفيض أو تبنيه المطلق كنص مقدس بدل الاستفادة القصوى من التقارير الصادرة عن هذه الوكالات بقطع النظر عن صحة الترقيم من عدمه!! ففي رمزيته لن يتخطى التراجع الترقيمى حدود دق أجراس الخطر للتنبيه إلى حقيقة أن وضعنا الاقتصادي صعب وحرج يستوجب التدارك السريع بروح من التوافق وبحزمة من التدابير الناجعة المتعددة المستويات تجيد حبك الظرفى بالهيكلي.. العاجل بالآجل في إطار مزج ذكى للسياسي والاجتماعي بالاقتصادي... أما الوجه الآخر من الصورة الذي لم يتم الكشف عنه ، الغائب الكبير عن المعادلة الترقيمية -عن قصد أو عن غير قصد- أنّ نفس هذه الوكالات هي اليوم محلّ جدل ونقد شديدين بلغ مستويات الطعن في مصداقيتها من قبل العديد من الهيئات والمؤسسات الدولية المالية الكبرى . فبالأمس القريب قامت نفس الوكالات بالعديد من المغالطات القاتلة التي لا تغتفر.. ففضيحة الشركة العملاقة متعددة الجنسيات "ارنون" من خلال الترقيم الجيّد التي تحصّلت عليه أياما معدودة قبل إشهار إفلاسها سنة 2001 مازالت عالقة بالأذهان .. والدور المريب التي لعبته هذه الوكالات في أزمة 2008 المالية الخانقة بتقديراتها المبالغ فيها للسندات المتصلة بالقروض العقارية باعتماد نماذج تصنيفية غير دقيقة بالمرة من سنة 2004 إلى سنة 2007 ...والصواعق الترقيمية التي ما انفكّت تقصف بها اليوم مختلف الاقتصاديات الأوروبية الواحدة تلوى الأخرى دون أن تستثنى حتى تلك الدول التي تتمتع بمركز ائتماني متميز كألمانيا وهولندا ولوكسمبورغ لتصبح جزءا من أزمة منطقة اليورو عوض أن تكون طرفا فاعلا في الحل!!.. والقائمة تطول... فالتحفّظات المعلنة حول أداء وكالات التصنيف الائتمانية عديدة ذات علاقة بالشفافية والحوكمة والجودة. فقطاع التصنيف الائتماني يتّسم بطابع احتكاري لنجد ثلاث مؤسسات فقط تستأثر بأكثر من 90 بالمائة من عائدات القطاع وهي على التوالي : ستاندار أند بورز وموديز وفيتش أو ما درج على تسميتهم بالثلاث الكبار.. ترويكا تنشط برأسمال خاص تتملكه مجموعات ضغط مالية وإعلامية كبرى!! تشتغل على نماذج ومناهج تصنيفية غير شفافة بالقدر الكافي في تقييمها للقدرة الايفائية للدول والجماعات المحلية والمؤسسات والمصارف..بتوقيت ترقيمي غير منتظم مباغت إلى حد بعيد ومربك للأسواق المالية ولخطط الإنقاذ الاقتصادية..ودون قدرة حقيقية على استباق الصعوبات التي يعترضها المقترضين !! مسوّغات كافية لتحفّز العديد من الدول والتجمّعات الاقتصادية الكبرى على البحث عن بديل. فالهيئة المشرفة على الأسواق في أوروبا أوصت ببعث مؤسسة دولية مستقلة للإشراف على عمل هذه الوكالات، والسّلط العليا في الولاياتالمتحدةالأمريكية أقرّت منذ 2006 العديد من القوانين والترتيبات المنظمة للقطاع للحد من تغوّلها، أمّا على المستوى العربي فنجد أصوات عديدة تنادي بإنشاء هيكل عربي متخصّص في التصنيف الائتماني ... من المفارقات حقا أنه في الوقت الذي لم تتوقّف وكالات التصنيف ببعث الرسالة تلوى الأخرى تظل نخبنا السياسية تبدع في ممارسة هواية المثيرات والاستجابات "البافلوفية" على قاعدة سابقيه الإضمار والترصد المتبادل!! في حين أنّ حاضر ومستقبل منظومتنا الاقتصادية بأمسّ الحاجة إلى تصنيف ائتماني مختلف.. من نوع جديد.. تصنيف برصيد حقيقي يبنى أسس الثقة بين مختلف الفاعلين معتبرا الشأن الاقتصادي الراهن بتحدياته وتعقيداته هاجسا وطنيا بامتياز يوحّد ولا يفرّق.. بقلم : محجوب لطفى بلهادى