بقلم: رائف بن حميدة -يبحث هذا المقال عن حل وسط للخروج من مطب التنافر والتجاذب الخطير بين ما يسمى بال"أصوليين" وال "حداثيين"، وهو تصدع "طائفي".. مأساوي، ناتج عن تقدم الغرب وتخلف المسلمين!!.. فيتناول بالتحليل مكونات المجتمع الإسلامي الجوهرية وهي ثلاثة: عبادات وأخلاق وإدارة، والحل المقترح هو: مصالحة الأصوليين مع العقل (أي مع الحاضر = الإدارة) ومصالحة الحداثيين مع النقل (أي التاريخ = عبادات + أخلاق). وهذا يعني أنْ تكون الإدارة (أي المنظومة القانونية) كلها بحسب مقتضيات الظروف والعصر.. وأما الأخلاق والعبادات، جوهر الإسلام، فهي طبعا ثابتة لا تتغير. إنه من المعقول والبديهي اعتماد السلف الصالح مرجعا لنا في الأخلاق والعبادات.. ولكن من المهازل اعتماده أيضا لتصريف شؤون دنيانا التي نحن بها أدرى! وما يستوجب التأكيد هو أن هذا "الحل الوسط" بديهي لا يختلف فيه عاقلان، قال الشاعر الحكيم وليس يصحُّ في الأفهام شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليلِ إن التطرق الى دراسة العلاقة بين الإسلام والسياسة موضوع كبير وشهير.. ولكن بداهةً، أليس الدين قيمٌ روحية ومفاهيم تنظم وترتقي بالإنسان في علاقته بنفسه وبغيره وبالوجود، مأتاه ومآله ومنتهاه.. قيم تنظم وتفسر دون أن تسيطر فإذا شملت السيطرة تحولت الى سياسة "..فذكّرْ إنّما أنتَ مذَكّرٌ لسْتَ عليهم بمُسيْطرٍ.."؟!.. وما يلفت الانتباه هو أن تاريخ الحكم عند المسلمين شهد في أغلبه تداخلا بين السياسي والديني وخاصة في الجانب التشريعي مما أضفى على الإسلام شكلا شموليا. (دون أن نغفل أنه كثيرا ما تم توظيف الدين للوصول الى السلطة أو لتثبيتها، ومنهم حتى مندسون لا يلتزمون بأبسط قواعده !!!). نبذة تاريخية يُغفل الكثيرون أن الرسول، بُعث والعرب في ظروف استثنائية خاصة، ولذلك اضطلع برسالتين وليس برسالة واحدة فحسب! رسالة دينية هي جوهر البعثة. وأيضا رسالة دنيوية جاءت عرضا! (تمثلت في ضرورة بناء دولة لكبح المظالم والتناحرالقبلي المهلك.. وهي خصوصية واستثناء الوضع الجاهلي!..). ونؤكد على أن هذا التداخل هو الذي جعل الإسلامَ يتراءى للكثيرين دينٌ ودولة! (والله إنكِ لخيرُ أرض الله وأحبها إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ ).. هذا هو لسان حاله، صلى الله عليه وسلم، وهويفارق مكة.. دليل قطعي على أنه لم يهاجر بمحض اختياره وإنما مكره.. وفي يثرب (المدينةالمنورة) أخذت الرسالة منحى جديدا.. وخاصة بداية من السنة الثانية للهجرة بمعركة بدر وما تلاها، حيث بدأ التداخل الفعلي الديني/السياسي، تداخل تجسد حتى في النص القرآني ( جُل آياته لها أسباب نزول).. وتوفي الرسول، عليه الصلاة والسلام دون ان يترك وصية محددة لخلافة أولحُكم!.. وصيته الوحيدة كانت في المعاملات والعبادات، أي وصية دينية محضة.. وتولى القيادة سيدنا أبو بكر في مرحلة صعبة فاصلة، وبه بدأ التاريخ السياسي العربي.. ثم جاء من بعده سيدنا عمر، فأتم رفع أركان الدولة العربية والذود عن حياضها، فهو الذي وضع الدواوين منفتحا على خبرات الأمم، مستلهما مقاصد الشريعة.. ففي عام الرمادة (سنة جدب وقحط وقعت في منتصف خلافته) عطل حدّ القطع، رغم ما جاء في عديد الآيات "ومَن لمْ يحكُم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"! .. ولما كثر الخلق واختلط، وما استتبع من مخالفات.. اشترى دارا واتخذها سجنا لتخفيف الأحكام، وهو اجتهاد وابتداع منه، فلم يكن لرسول الله ولا لخليفته حبس! ابتداع أيّده وأضاف إليه سيدنا عثمان ثم الإمام علي.. فكانت العلاقة بالدين علاقة يسر ومنطق دون تكلف.. وهكذا احتكم الخلفاء الى العقل ومقتضيات الواقع.. ولولا تظافر ورعهم وحزمهم مع حكمتهم، رضي الله عنهم، لقضي على دولة العرب في المهد.. ومجمل القول أن التداخل بين الإسلام والسياسة جاء عرضا. وما هذا الرأي بشاذ او بغريب، بدليل أن جل مشاهير العلماء لا علاقة ولا علم لهم بالسياسة، وكانوا يتهربون منها وفيهم من نهى عنها.. بل ومن لعنها أصلا!! وهو دليل كاف لدحض جميع المزاعم شبه العنصرية من صنف: اقتصاد إسلامي، قضاء إسلامي، فلسفة إسلامية، سياسة إسلامية.. بيولوجيا إسلامية؟.. جمباز إسلامي؟؟.. وكل ما في الأمر أن جميع هذه التخصصات وغيرها، ملزمة فقط بالتقيد بالأخلاق الإسلامية، بدليل الحديث (إنما بعثتُ لأتمّم مكارمَ الأخلاق) والآية "وَمَا أرسلْناكَ إلا رحمةً للعالَمين".. ويجدرالتأكيد أنّ اختزال الإسلام في الأخلاق لا يعني استهانة به، فبالأخلاق يرتقي "الشيطان" الى "ملاك" والعكس بالعكس.. (ومنها مأساة إبليس!.. اللعين. وبداهة الشعوب المتقدمة لا ترث أجيالُها المتعاقبة أدمغةعلمائها!، فأطفالها يولدون كغيرهم أدمغتهم صفحة بيضاء، وإنماالذي يتوارثونه هو السلوك الحضاري أساسا!.. بينما أطفال الشعوب المتخلفة يتوارثون الفساد السلوكي، وهو سر انحطاطهم!!.. وإن انفتحوا على المتحضرين وتلقنوا بعلمهم.. أو اقتنوا آلات عصرية أو ملكوا الأطيان.). والتاريخ يؤكد أنه لما حلّ التعصب والتزمت حلت عصور الانحطاط.. وأستمر المسلمون على هذا الانغلاق حتى ضعف حالهم فغزاهم الاستعمار الغربي وهم في غفلة من أمرهم، حينها فقط تعالت بعض الأصوات بضرورة الاجتهاد الجسور للتطوير والإصلاح.. ولكن هيهات، فقد ترسخ الاستعمار وتغلغل حتى بشكله الثقافي فأضحى المسلمون، بوعي أوبدونه، ينظرون الى حضارتهم نظرة ازدراء واحتقار ودونية.. ولكن من أوصل الى هذا !؟؟.. إنها تلك الدعوات المتزمتة الغبية التي ادعت جيلا بعد جيل حماية الدين! دعوات لم تكن إلا.. سوسا ووسواسا مقدسا.. وجسرا لجحافل الغزو بمختلف أشكاله العسكري والثقافي. وفي وضعنا الراهن، من الأكيد هذه الأعمال المسلحة التخريبية، التي بداهة لن تنتج ديمقراطية، هي مؤامرات يحركها الإمبرياليون لتحييد الطاقة الثورية عن مسارها وتوجيهها الى أقطار الممانعة والمقاومة.. وكذلك الفتن المغلفة بالدين هي مجرد "فيروسات" يبثها العملاء الرجعيون القروسطيون لضرب العقل العربي والتشويش عليه، استباقا لعدوى الروح الحداثية التحررية التي أتت بها الثورة التونسية التاريخية، المنادية بالحياة والحرية والكرامة الوطنية وتحرير الأمة العربية ومحورُها فلسطين.. (وليس سوريا!.. فلو كان لهؤلاء العملاء ضمير إسلامي ورأي سديد يستنيرون به للرشاد لما تجاهلوا أن المسجد الأقصى، مسرى الرسول، ليس في سوريا، بل في فلسطينالمحتلة.. التي يدعم مقاومتَها النظامُ والشعبُ السوري المتآمر عليه!..)