غصت قاعة المسرح البلدي بالعاصمة مساء يوم الجمعة بجمهور غفير جاء متعطشا متلهفا باحثا عن عمل ركحي وفرجة مسرحية تطرح بعمق وصدق ومن خلال لوحة فسيفسائية واقعه المعيش المليء بالمتناقضات والتجاذبات.. جاء الجمهور ليستقبل الفنان محمد علي النهدي في أولى تجاربه المسرحية بطريقة "الوان مان شو" وهي "الزمقري" والتي جاءت حاملة لإمضاء والده الفنان الأمين النهدي في الإخراج وفي إنتاج لتقاسيم للإنتاج المسرحي والدرامي. مشاهد عديدة، متداخلة مترابطة أحيانا،، متضاربة متناقضة أحيانا أخرى.. شخوص المسرحية كما جسدها محمد علي متنوعة وثرية وهذه الشخوص ان شئنا هي عبارة عن نماذج اجتماعية مختلفة تعكس أنماطا تعيش بيننا في المجتمع أو هي تعكس الانسان في تناقضاته واختلافاته وفي معاناته وحتى في مواجهته للقمع.. انها كذلك تبرز ذلك المدّ والجزر بين الأفراد في الطبقات المختلفة للمجتمع الواحد وخاصة بين الطبقة الحاكمة والشعب... هي من الشعب واليه بدون تفلسف... إنها لا ترتقي للكتابة المسرحية ذات القواعد العلمية والفنية المتعارف عليها ولكن نستطيع تصنيفها في خانة الكتابة الاجتماعية البكر القريبة للوجدان الاجتماعي من اعتصامات وغيرها... شخصيات اجتماعية مهمشة أو هي محبطة تدور حول الشخصية الرئيسية أو الشخصية المحورية وهي لشاب تونسي طموح وحالم يتعرض زمن المخلوع للاضطهاد والظلم وكل أنواع القهر فيهاجر بحثا عن طمأنينة مفقودة.. تستغرق رحلة البحث عن الأمان 8سنوات هي مرحلة ما قبل ثورة 14جانفي التي فجرت الوضع لقد تفاجأ ب"الإفرازات" السياسية والاجتماعية التي أنتجتها ثورة 14 جانفي فبقي مذهولا.. مشدوها.. يعود الشاب بعد الثورة إذن وفي ذهنه أن ما حدث هو بمثابة تحقيق الحلم المستحيل.. انها مرحلة جديدة تدخلها البلاد ومنعرج تاريخي هام.. لنودع فيه الظلم والقهر ولنرحب فيه بالديمقراطية وبالحرية التي هبت نسائمها أخيرا على ارض الوطن العزيز.. فهل أن ما وقع ويحدث بعد الثورة له علاقة بالحرية وبحقوق الإنسان؟ هل ان الفوضى التي تحدث الآن واستمرار الاضطهاد والظلم والصراع الحزبي والتكالب من أجل الجلوس على كراسي السلطة له علاقة بالديمقراطية؟؟ وهل يعني التعرض للقمع والاعتداء بسبب إنتاج أغاني متحررة مثلا يدخل في خانة حرية الإبداع؟. في هذه المسرحية أخذ محمد علي النهدي واقعنا الاجتماعي ووضعه تحت المجهر وعرّى فينا الجانب الذي نسعى دائما ونجتهد لإخفائه.. العامل، والكادح البسيط والبرجوازي ورجل الإعمال وسيدة المجتمع... كلها شخصيات نالت نصيبها من النقد في هذا العمل المسرحي ليعرج محمد علي كذلك على رسم صورة قاتمة على تردي الوضع الثقافي الذي نعيشه والذي اشتد وطؤه واستفحل بعد الثورة. في مسرحية "الزمقري" استمتعنا بإعادة اكتشاف موهبة الفنان محمد علي النهدي وما يختزنه من طاقات من خلال انتقاله من شخصية إلى أخرى أو تحركه من وضعية إلى وضعية بطريقة كاريكاتورية سلسلة وبأسلوب كوميدي مدروس.. ثم انه استطاع أن يطوع جسده بمهارة فائقة واتقان بديع ليربط بين النص والحركة إلى درجة الابداع والتميز، كما ان لمسات الامين الاخراجية تبدو واضحة واكثر من جلية في هذا العمل الذي استطاع بالفعل والقول ان يدخل البهجة على الجمهور الذي استمتع بفرجة جميلة وبعمل مسرحي أضحكه ولم يضحك عليه فلم يندم على وقت أضاعه بل سعد بحضور عرض اجتهد أصحابه بحرفية واتقان لامتاعه.